نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: خديجة شحّود.
محلّ الولادة وتاريخها: السعيدة 26/8/1987م.
الوضع الاجتماعيّ: متأهّل وله ولدان.
رقم السجل: 25.
مكان الاستشهاد وتاريخه: درعا 24/5/2017م.
انقضى خمسة وأربعون يوماً، ولم يبقَ من صبر الانتظار إلّا جذوة صغيرة تحت رماد الأمل. عاد مَن عاد حيّاً، ومنهم من قضى نحبه. الغبارُ لم ينجلِ بعد عن أرض الجنوب، وعيونٌ شاخصة ناحية الباب عساه يطلُّ ذلك الشابُّ الذي شابَهَ عمَّه "يوسف" جمالاً وخلقاً ومنطقاً وجهاداً.
أمسكتْ بعضُده قرب السوق في حضرة مقام الإمام الحسين عليه السلام، وذكّرتْهُ باستحبابيّة تجهيز الكفن في المنزل، مقترحةً عليه أن يقصد وإيّاها مكاناً لشراء كفنين، يباركانهما في الأضرحة المقدّسة، ويكونان بذلك قد هيّآ زاد القبر.
لم تعرف سبب رفضه الفكرة التي وافق بعد إلحاح على جزءٍ منها، وهو شراء واحدٍ لها فقط! كان رفضه حاسماً بشأن شراء كفن له. هذا الموقف أنبتَ في قلبها حيرةً، تحوّلتْ إلى دمعة حارقة وهي تراقب جثمانه يُودَع في حفرته المباركة بثياب جهاده، المضرّجة بالدماء.. فأيُّ كفن!
•معركة استشهاديّة
"إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي"، هو الدعاء الذي كان يكرّره في ليلته الأخيرة، الليلة التي خلع فيها رداء الحياة الفانية، وارتدى ثوب الخلود بجوار أحبّائه محمّد وآل بيته (صلوات الله عليهم).
في معركة أشبه بكمائن متتالية في درعا، قاد "جهاد طورا" ورفاقه معركةً استشهاديّة، كلّما جُرح خلالها مجاهدٌ وارتفع شهيدٌ، كلّما شدّوا أواصر بعضهم بعضاً وتقدّموا ناحية العدوّ. تموضعوا في الخطّ الدفاعيّ الثاني، وأُجري التحضير للتقدّم وتوزيع المجاهدين في الخطّ الدفاعيّ الأوّل الشديد الخطورة. وفي خضمّ هذا التقدّم، تعرّضوا لهجوم عنيف، فأصيب أحد المجاهدين، ولم يستطع أحدٌ سحبه. وبعد وقت قصير، رنّ هاتف الجريح في جيب جهاد، كان المتّصل زوجته. وقع شعورٌ غريبٌ في قلبه، ولمعت صور أهله وزوجته وطفلَيه كالبرق أمامه، وتساءل: هل يشعرُ المحبّون بالضرّ في اللحظة نفسها التي يصيب فيها محبوبهم؟ بلى، لا شكَّ في أنّ هناك وريداً روحيّاً بين القلوب!
•فداء للجرحى
كان الجريح ينزف ورنين الهاتف يتواصل، أجابها "جهاد" وطمأنها أنّه بخير. وبعدها، اضطرّوا إلى البقاء في أماكنهم وانتظار طلوع الصبح. أمّا جهاد، فبقي مستيقظاً، يتفقّدُ المنافذ، ويتحيّن فرص سحب الجرحى. كان في جيبه سجدة وكتاب دعاء من العراق. أدّى صلاته، وبينما هو يقرأ الدعاء، غفت عين رفيقه، ولمّا استيقظ الأخير لم يجده، سأل عنه، فأخبروه أنّ جهاداً عاد إلى الميدان لسحب رفاقه وهو يتوعّد التكفيريّين. وأثناء القتال، استُهدف بقذيفة هاون، فاستشهد من فوره!
•"ريحة الجنّة"
لم يكن "جهاد طورا" -الاسم الجهاديّ الذي لقّبه به رفاقه في النقطة الأولى التي خدم فيها- شخصاً عابراً في حياة مَن حوله، فكلّ مَن عرفه حمل في روحه أثراً منه، وخصوصاً مَن خدم معه في المحاور؛ فقد رأوا فيه الخدوم المُلبّي والمبادر في التخفيف عنهم، وهو يكاد يكون أصغرهم. وإذا جنّ الليل، أخرج مكتبته الصغيرة: كتاب القرآن، ومفاتيح الجنان، وأنيس المجاهدين، وشرع في أعماله الليليّة، فكان يقرأ لهم بصوت حنون زيارة عاشوراء. ولشدّة روحانيّته، وصفه رفيقه أنّ في صوته "ريحة الجنّة"، وكثيراً ما غفت عيون المجاهدين من التعب على همس صوته، فيما يبقى هو مستيقظاً لأداء صلاة الليل، التي إن لم يوفّق للقيام إليها، صلّاها قضاءً.
هو المستيقظُ اليقظ، الذي لا يهمّه ما نوع العمل الذي سيوكل إليه، ولا يسأل عن السبب، بل ينفّذ بحبّ وصبر وإخلاص وإيثارٍ، حتّى إنّه في بعض الأحيان كان يخدم أكثر من غيره؛ لأنّه اختار البقاء في المحور؛ ليس حبّاً بالجهاد فحسب، بل لأنّه اتّخذ من المحور مكاناً لسلوكه العباديّ.
كان يرفع معنويّات مَن معه من المجاهدين؛ فلسانه لا يَسكت عن ذكر أهل البيت عليهم السلام وأحاديثهم، وهو الذي ملأت نداءاته: "يا زهراء"، "يا بقيّة الله" أرجاء المعارك، ليلقي الرعب في قلوب العدوّ.
ليست هذه الروحيّة غريبة على الابن الثامن بين أحد عشر ولداً لوالدَين متديّنَين، ربّيا أولادهما على فعل الحلال، وترك الحرام، وحبّ الجهاد. في بلدته "السعيدة" كبر "جهاد". أنهى دراسة السنة الثانية في المعهد التقنيّ، وانتقل مباشرةً إلى العمل مع المقاومة، خاضعاً للعديد من الدورات العسكريّة، ومشاركاً في الكثير من المهمّات الجهاديّة قبل اندلاع الحرب في سوريا.
•مواقف صعبة
مع التحاقه بجبهة سوريا، بدأت قصص جديدة في حياته، مواقف تجلّت فيها ملائكيّته، لما حمله من صفات نبيلة، وإيثار لافت، فكان يحمل عن رفاقه السلاح إن تعبوا، وكأنّه لا يتعب! وقد تعرّض لمواقف خطيرة عديدة في سلسلة طويلة من المعارك، أوّلها كان في منطقة القصير، حيث أصيب منزل يرابط فيه مع رفيقه بقذيفة، وظنّ كلّ منهما أنّ الآخر قد استشهد. وفي منطقة السحل، وبينما كان في مهمّة استكشاف مع مجاهد، وإذ بهما يصبحان أمام المسلّحين، فأطلق "جهاد" النار مباشرة نحوهم وأرداهم قتلى. وفي مهمّة ثلجيّة، التجأ مع رفيقه إلى مغارة في جوٍّ شديد البرودة؛ ليغفوَا بين الثلج ويتدثّرا بدثار واحد. ولأنّه يهتمّ كثيراً بمعرفة كلّ شيء وفهمه، قام بتسجيل استخدامات أدوية وضعها في حقيبة عسكريّة، ليعرف بالضبط متى تُستخدم حسب الحاجة.
•مُلهم القوّة
لقد سخّر الشهيد نفسه لإسعاد أفراد أسرته، فكان يمتلك قوّة جاذبة إليه؛ فيأنسون بحديثه، وبروحه المرحة الجميلة، ويستمدّون منه القوّة عندما تضعفهم مواقف الحياة. كان عندما يعود من المحور، لا يهمّه أن يقضي الليل ساهراً على مرض وَلَديه، ولا يبحث عن راحة إذا طلب منه أحد المساعدة، أو سمع بحاجة أحدهم إلى شيء.
في أيّامه الأخيرة، أمضى ساعاته مع أهله وعائلته بين ضحك ولهوٍ، يوصل لهم رسائل مبطّنة عن قُرب رحيله؛ فقد أخبر مَن حوله بطريقة ما أنّه سيستشهد قريباً، حتّى ملامحه وشت بذلك، إذ كان كلّما عاد من الجبهة، نقص اسمراره وازداد نوراً، وكأنّ شمس الجبهة اللاذعة لا تصبغ جبهته، بل تزرع ضياءها عليه، وكلّما لمع بريق عينَيه، أوغل الخوف من فقده في قلوب أحبّته؛ فهو لا يلبث أن يعود من معركة، حتّى يلتحق بأخرى.
•الوصيّة الأخيرة
قبل أن يلتحق بمعركته الأخيرة، ذكّر زوجته بحجارة جلبها معه من مقام الإمام الحسين عليه السلام، وطلب إليها أن توضع تحت رأسه في القبر. ولمّا عادوا به وقد ألبسته الشهادة ثوب عزّته، وقبل أن يوسّدوا رأسه التراب، استمهلتهم زوجته لتعطيهم الأحجار، الوصيّة الأخيرة. فأيُّ قبر؟!