كما سبق وذكرنا أن الكثير من الناس عادة عندما يتخلصون من ظلمات المصائب والآلام، وينتصرون بإذن الله تعالى... فإن الحالة الأولى التي تظهر فيهم هي النسيان.
1- النسيان
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾. النسيان والغفلة، هذه الحالة تمثل بداية نقطة السقوط وأول مرحلة لعدم الشكر.. وهناك أيضاً حالات أخرى أخطر يحملها الإنسان.
2- الفخر والمباهاة
يقول الله عز من قائل: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾.
يعتبر علماء التفسير الكبار أن مفهوم: "ذهب السيئات عني" يعني أن الإنسان يعتقد أن الشدائد لن تتكرر عليه وجملة: إنه لفرح فخور بحسب هذا التعليل يعني أن هذا التصور الباطل وهذه الحالة الواهمة ونسيانه الحاصل، كل ذلك يمضي به ويشده إلى حب الدنيا واتباع الشهوات والأنانية.
3- الإعراض عن الله
﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ أعرض يعني: أظهر عرضه أي ناحيته.
نأى بجانبه أي: اتخذ لنفسه جهة بعيدة عنا.
يبين هذا المفهومات مدى الحالة السيئة التي يصل إليها الإنسان، إذ أنه بعد ما يرى نفسه منعماً ومحاطاً بالعناية الإلهية ينأى عن جانب ولي نعمته ويبتعد عن الله تعالى.
4- ويجعل لله أنداداً
عندما يكون المرء غارقاً في الغفلة مبتعداً عن الساحة الربوبية المقدسة يبصر النعمة ويعيش الرخاء. تنشأ لديه حالة أخرى خطيرة وعظيمة وهي أنه يجعل لله شركاء ليضل الناس عن سبيل التوحيد، فلا غرو بأن الذي لا يلجأ إلى الله سيلجأ إلى غيره من شركاء مصطنعين، والذي يترك حلاوة ذكر الله سيغدو قلبه مليئاً بمرارة حب الجاه والشهرة والقدرة وهذا من أعظم آفات النصر التي تظهر بعد النسيان حيث يبين الله تعالى ذلك في سورة الزمر: ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾.
"خوله نعمة": من مصدر التخول أي العطاء الكبير والهبة الواسعة.
كذلك أيضاً يعتبر هذا المسكين أن ما لديه من نعم فهي من نفسه ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾.
يردد الإنسان وهو في النعم والرخاء ويقول: لقد نتج كل هذا من خلال علمي ومعرفتي. ويتصور أنه حصل على ما يملك بذكائه ولباقته ويصيح.. هذا الأمر يتعلق بي... أنا قلت... أنا فهمت، أنا عملت، أنا...
عجباً لهذا الإنسان... أين كان علمه ومعرفته وذكاؤه عند البلاء والمصائب، وما الذي أنتجته له تلك المعرفة والفهم في زمن الغم والهم؟!!.
5- المنع
﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾.
تبين لنا فيما سلف أن للإنسان خصلة: هي أنه يجزع ويتزلزل عندما يمسه الضر والشر، وعندما يحصل على الخير ويحرص ويمنع. ليس فقط أنه لا يفعل الخير بل يمنع الآخرين من الإحسان أيضاً. وسحب المفهوم القرآني يكون مغموراً بالخير، ومع ذلك مانعاً له.
6- يعتبر النعم ملكه
من المسلم به أن هذا الإنسان الأناني الذي يعتقد بأن التوفيق مرهون بعلمه ومعرفته، والنعم هي تحصيل ذكائه وفهمه وإدارته، هكذا إنسان من الطبيعي جداً أنه يعتبر كل النعم محصورة له... وبحسب تعبير القرآن يردد نغمة "هذا لي... وكله لأجلي" آه لهذه الأنا ماذا تفعل في ساحة النعمة وأية معركة تشن بميدان التوفيق ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾.
7- الشك في البعث والقيامة
لا ينتهي الكلام عند هذا الحد، ولا يتوقف شيطان أنانية الإنسان عند هذا بل يضع حاجزاً أمام الآخرة. ويشكك في يوم القيامة، ويعتبر أنه كان مخدوعاً بقضية الموت والبعث، وهذه النعم ستخلد له..
ما الذي يمكن أن يُصنع مع هذا الغافل ويُعمل مع هذا الأناني الشاك... وهل يستطيع الجاهل مشاهدة عالم النور.
ترون هذا العاجز بالأمس حين حلت به النعمة انقلب يقول: "وما أظن الساعة قائمة".
يقوم بكل هذه التشكيك ليخدع نفسه ويوهمها بعدم وجود محكمة إلهية. ويتفوه بذلك ليفلت نفسه من حكومة العدل الربانية، وهكذا يصل ليظن نفسه حاكماً ومالكاً للرقاب.
رباه.. آه لحماقتنا نحن الذين تخلفنا عن قافلة النور، إنها الخطايا أبعدتنا عن سنا جلالك وجمالك.. فطفقنا نعبد أنفسنا.
ما بالنا عزفنا عن المسير الإلهي، وتعلقنا بالجسم الحيواني، ما الذي سينفعنا... إذا ما انتهى كل شيء حين لا ينفع المقال ولا مجال للأعمال...
8- اللجاجة في الطغيان
الحالة الثامنة المعتبرة من آفات النصر هي اللجاجة في الطغيان.
﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾: من عمه وهي الاستغراق في الحيرة والضلالة. ويذكر القرآن أن إحدى الآفات العظيمة بعد نعمة النصر هي اللجاجة والعناد... ولكن أي عناد هو؟ إنه العناد في الطغيان... ورية لجاجة تلك؟ هي اللجاجة في الحيرة والتردد والضلالة.
أول معصية وقعت على ظهر الأرض هي الاستكبار، بالذنب الذي ارتكبه إبليس: (أبى واستكبر).
إن الاستكبار كنار أتت على جميع العبادات والأعمال وأحرقتها عن آخرها.
ونذكرها هنا نموذجاً بينه أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: فاعتبروا ما كان فعل الله بإبليس إذا أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدري أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة.
لا ينبغي أن نتعجب لكيفية احتراق أعمال آلاف السنين بساعة من الكبر... فإنه من الممكن أن يقضي إنسان ما ساعات طويلة من الجهد والتعب ليصل إلى قمة جبل وبعد ذلك يهودي بلحظة واحدة.
من الممكن أيضاً لإنسان عاش سنوات من المراقبة والمواظبة أن يسقط عن حيز الانتفاع بذلك بسبب خطيئة وجناية واحدة.
نعم... إن الارتقاء يحتاج إلى وقت من التعب والجهد أما السقوط فلا...
وبعد ذلك ما هو العمل؟
إن الطريق الوحيد للنجاة من هذه الهلكة هي أن لا نتكل على أعمالنا ولا تزهو بعباداتنا ولا نتفاخر بجهادنا ومقاومتنا للعدو ولا نعتمد على تاريخنا الماضي المشرق. ولا نُسّر بصلاتنا ودعائنا لأن ذلك من روحية أهل الطلب الذين يعتبرون أن لهم استحقاقاً، ويربي عندنا ذهنية عبادة العمل وروحية الاستغراق في الذات التي لا تترك للآخرين أي اعتبار.
يجب أن يرى المرء نفسه مملوكة لله وهو لا يملك أي حق... حتى ولو وقتل ولده في سبيل الله... وإن بذلت أمواله وأرزاقه وإن أصيب بآلاف الجراحات، وقدم وجوده في سبيل الله تعالى في آخر لحظات حياته، وبروحية من لا يرى لنفسه شيئاً يردد:
"رضى برضاك".
ألم تسمعوا الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: "من يرى أن لنفسه فضلاً فهو من المستكبرين".
ينقل الغزالي في كتاب منهاج العابدين قصة بلعم بن باعوراء مع كل العلم الذي كان يتمتع به حيث كان يحضر مجلس درسه اثنا عشر ألف دواة.. لكنه عندما ظهرت نبوة موسى عليه السلام لم يستطع بلعم أن يرى موسى عليه السلام مقابله... فوقف بوجهه بعناد وتكبر ووصل إلى حد محاربته بل وأكثر من ذلك أنكر وجود الله تعالى... أنكر الله وقد كان لسنوات خلت يثبت وجوده لطلابه بالدلائل المختلفة. ومن الملفت أن القرآن الكريم يذكر في سياق الآية التي تتحدث ن اللجاجة في الطغيان... أن عناد هؤلاء وصل إلى حد أنهم لو أرسل عليهم العذاب فلن يعودوا: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾.
9- المكر في آيات الله
من الآفات الأخرى أيضاً أن الإنسان بعدما ينتصر في الحرب ويرى النعمة والعناية الإلهية تنشأ لديه حالة المكر في آيات الله ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾.
لماذا يمكر الإنسان في آيات ربه؟
لعل العلة في ذلك، أن الإنسان المكّار لا يرى أصالة للوحي، بل يعتقد نفسه محل الله تعالى، يعبد ذاته في حين عبادته لله... ولا توجد هذه العبادة في أي قاموس خلال قاموس الإنسان المكّار...
فعمله لا يصدق نيته، ونيته لا تقبل عمله.. يتبدل ويتغير ويأتي كل لحظة بشكل جديد.. يتصنع ويسعى لإبراز نفسه..
لهذا فقد بيّن الله تعالى المآل للإنسان المكّار بهذا النداء المبيد: ﴿قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾.
إن آيات الله حق، ولذا كل الذين يمكرون فيها سرعان ما يبرز ويتضح مكرهم على حقيقته... ومن هنا يعطي القرآن أهمية خاصة للتاريخ من خلال ذكر القصص وعبر الأقوام الذين خلوا من قبل... ليبين أن كل أشكال المكر والخداع ستخف أمام صولة وصلابة الحق.
وكذلك في التعبير الرائع لأمير المؤمنين عليه السلام حيث أن بني أمية وعلى رأسهم معاوية كانوا يتصورون أنهم يستطيعون الانتصار بالحيل والمكر بآيات الله واتباع الدنيا فيقول عليه السلام: "كذب الظان لذلك بل هي مجة من لذيذ العيش يتطعمونها برهة ثم يلفظوها جملة".
10- البغي في الأرض
﴿فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ﴾.
تتحدث الرواية عن ركاب أبحرت بهم السفينة وهم فرحون غارقون بالملذات.. إلى أن هبت العواصف فجأة وتعالت الأمواج من كل جهة، وابتدأ الخطر.. وشرعت الأعاصير المخيفة أفواهها. وأخذت السفينة تتزلزل وقد انقطعت السبل بركابها المساكين. وسدت طرق النجاة، وتلاشت كل الأفكار عندها من الطبيعي أن يلجأ الناس إلى الركوع.. إلى السجود، إلى البكاء والتضرع.. الاستغاثة بكل ما يملكون...
قطعاً في هذه الحالة لن يشركوا.. بل من المحال أن يبقى هناك شرك... عندها يدعون ويتوسلون لئن أنجيتنا لنعبدك ولنكونن من الشاكرين.
نعم لقد كانوا يقولون صدقاً... وبعد ذلك: "فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق".
ولكن... ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم﴾.
11- الشرك
هنا يتسع المثال: لأن حالة العجز والضعف لا تظهر فقط مع هبوب العواصف العاتبة، وارتفاع الأمواج الغاضبة في البحر، وعلى المركب التائه نحو الغرق... بل على اليابسة بجانب الشاطئ... داخل البيت... في غرفة العمل... وفي كل مكان يمكن ذلك ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾.
لقد كنتم تتوسلون وتتضرعون وتستغيثون وأنتم في ظلمات الشدائد: "لئن أنجيتنا لنكونن من الشاكرين".
ألسنا نجعل لله شركاء، كتلك الألعاب المصنوعة للأطفال ليلعبوا بها في فراغاتهم فإذا واجهوا خطراً تركوها وهربوا بحثاً عن الخلاص...
الكثير منا لديه حالة الأطفال هذه... حتى وأننا نحتفظ بها في سنين متقدمة أيضاً.
الشركاء كالألعاب، لعبة القدرة، لعبة المال، لعبة الجاه، ونصنع لجميع الأصنام ألعاباً ونجعلها إلى جانب الله، وإذا واجهنا خطراً نتركها لنعود إلى الفطرة الصافية.
وتزول هذه الحالة سريعاً- إلا عن قلة قليلة- إذ أننا حقاً لأطفال سرعان ما ننسى الخطر ونعود إلى سوابقنا.
وختاماً مما ينبغي ذكره أن هناك أناساً إلهيين موحدين... لم يصابوا بهذه الآفات التي ذكرنا... فلم يقعوا باليأس والشرك ولم يصابوا بالغرور والغفلة... وبعونه تعالى سنتعرف على هؤلاء وصفاتهم في المباحث القادمة.