لا شك أن أعلى قيمة إلهية وفضيلة إنسانية هي أن يكون الإنسان عبداً حقيقياً طائعاً لمولاه في كل أمر ونهي.
إن إدراك سر هذه القيمة هو الذي يمكّن البشر من الدخول في ساحة القدس هذه، وإلا فإن أيديهم ستبقى عن محفل الأنس بعيدة، ومجلسهم سيظل من عز اللقاء محروماً. فالإنسان يأنف من الذل والاستعباد ويعشق السياحة في بحر الحرية والسيادة، فإذا قدّمت له العبودية بوجهها الأول يتمرد ويستنكف بجهله وتمرّده، أما إذا عرف سر العبودية فإن آماله لن تبلغ بعدها شأواً، وأفكاره لن تدرك من عمقها غوراً، فإذا الحرية والكرامة في غوص الفناء، والكمال والجمال في حق اللقاء. فهذا الإنسان المتمثل بالعوالم السبعة صاحب الوعاء الذي لا حد له، وما أعظم كلمة مولى الموحدين علي عليه السلام في قوله: "كل وعاء ينضح بما فيه إلا وعاء العلم".
فأشار عليه السلام إلى حقيقة النفس الإنسانية التي هي الوعاء الواقعي للعلم، هذا الوعاء الذي لا ينضح أبداً لأن سعته قد فاقت كل الآفاق. "لم تسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن".
فكان الإنسان بوعاء وجوده فقيراً إلى المطلق اللامتناهي، ومشتاقاً في أصل كيانه إلى العظيم الذي لا حد له. ومن جانب آخر فإن في الوجود فيضاً لا حد له، هو فيض الله المطلق:
﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾، الذي وسع كل عوالم الوجود بجميع ذرّاته، وسطع على كل ممالك الأنس والجان بفيض سنائه، لا يحرم من نوره أي قابل مهما كان. ومشكلة الإنسان أنه يستغني بطغيانه فيقع في الفقر الأعظم ﴿الشيطان يعدكم الفقر﴾، لأنه يغلق بروح أهوائه المفرطة أبواب الفيض، ويقطع بتعلّقاته الفانية طريق الكمال، ولو أدرك المانع الأكبر لأعرض عنه وفرّ منه: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾ لأنه الصنم الأكبر، ولأدرك أن حقيقة الفقر إلى الله هي طريق الغنى: ﴿يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد﴾، وعلم أن فقره إلى الله لا إلى الدنيا التي هي سراب في الوجود والآخرة خير وأبقى.
هذه هي عبودية الإسلام تدعو الإنسان إلى إدراك حقيقته التي هي عين الفقر، وتناديه أن يسلك طريق الغنى الذي هو غايته، وإلى هذا أشار سيد المرسلين وأشرف الخلق أجمعين أبو القاسم محمد صلى الله عليه وآله: "الفقر فخري وبه أفتخر على سائر الأمم".
والسلام