السيد علي محمد جواد فضل اللَّه
اتخذت مكانة الشريف المرتضى بعداً مميزاً لها لدى العلماء والجمهور، وذلك لمقومات شخصيته الفكرية والدينية من جهة، ولاعتبارات الولاء المذهبي واحترام صلة النسب وتقديرها من جهة أخرى.
* الهوية الشخصية
هو السيد المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن إبراهيم ابن الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وقد أطلق عليه بهاء الدولة البويهي لقب "ذو المجدين" تكريماً لنسبه في الوقت الذي لقّب أخاه الرضي "بذي الحسبين" وذلك لاتصالهما بآل البيت عليهم السلام من جهة الأب والأم(1). وأما لقبه "علم الهدى" فأول من وسمه به هو الوزير محمد بن الحسين بن عبد الصمد وذلك عام 420ه(2). ولد المرتضى في محلة الكرخ في بغداد شهر رجب من سنة 355هـ - 966م. وأما وفاته فكانت في بغداد في الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة 436هـ - 1044م(3).
* شخصيته العلمية: مصادرها ومكوناتها
عندما نقف على مصادر معرفة الشريف التي نهل منها نجده غير مقتصر على طيف خاص من العلماء بل أنه قد تتلمذ على عدد من العلماء ذوي مشارب مختلفة منهم الإمامي ومنهم المعتزلي وغير ذلك. فقد قرأ المرتضى وأخوه الرضي اللغة والنحو على ابن نباتة السعدي (405هـ)(4) وكذلك أخذ المرتضى الرواية والأدب واللغة والأخبار عن عبد اللَّه المرزباني (384هـ) وهو أحد أئمة اللغة والأدب وأحد شيوخ الاعتزال(5)، وقد أخذ الفقه والأصول وعلم الكلام والتفسير عن الشيخ المفيد (413هـ)(6) الذي انتهت إليه زعامة الإمامية في عصره. وكذلك أخذ عن ابن بابويه القمي رأس المحدثين في عصره، وأخذ عن غيرهم الكثير. وإذا أردنا أن نتكلم عن المكون المعرفي والعلمي للشريف المرتضى فإننا نجده متبحراً ومتقدماً في علوم وفنون متنوعة كعلم الكلام والفقه وأصوله والتفسير واللغة والأدب والنحو والشعر وغير ذلك، حتى أن كتبه قد اعتبرت في الأوساط الإمامية في عصره وحتى مرحلة متقدمة بمثابة مقدمات تأسيسية في الإطار المذهبي. وقد نقل إلينا المؤرخون أن مجلسه كان كمجلس شيخه المفيد ملتقى أقطاب العلماء من المذاهب والملل كافة، حيث يناظر عنده في كل مذهب كما ذكر ابن الجوزي، وهذا مما يدل على اطلاعه على فوارق المذاهب ومواضع الخلاف فيما بينها(7). ومما تجدر الإشارة إليه أهمية الشريف في علم الكلام الشيعي إذ أنه قد أكمل طريق أستاذه الشيخ المفيد قدس سره الذي أسس قواعد المذهب على صعد مختلفة(8) من كلام وفقه وأصول وغير ذلك. فقد أفرد المرتضى بعض كتبه للكلام في أصول العقيدة والإمامة، وكتب في كتبه الأخرى ورسائله وجواباته فصولاً طويلة وممتعة في أصول الاعتقاد دلت على قوته الكلامية وشدة صلاته بآراء المتكلمين المتقدمين عليه والمعاصرين له، ولعل كتابيه "الذخيرة" و"الشافي" من أحسن كتبه الكلامية وأطولها، بل لعلهما من أرفع الكتب الكلامية الشيعية القديمة وأعمقها رسوخاً، وقد تطرق فيهما لبعض الأبحاث الكلامية وتوسع فيها توسعاً لم يسبق إليه مع تعمق في البحث وقوة في العبارة وإكثار من الشواهد القرآنية والحديثية وجمع للآراء واحتواء للنظريات(9).
* المصنفات
فيما يتعلق بمصنفات الشريف المرتضى يقول السيد حسن الصدر في كتابه "تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام": "... وصنف أصولاً وتأسيسات غير مسبوق بمثلها، وأكثر في التصنيف في المعقولات لنصرة الدين في تلك الطبقات بتلك المصنفات، فكانت له آيات بينات وكرامات كالمعجزات، منها "الشافي" ثم الكتاب المسمى ب"الذخيرة" من كل مباحث أصول الدين، ثم كتاب "الملخص في أصول الدين"، وكتاب "جمل العلم والعمل"، وكتاب "تقريب الأصول"، وكتاب "تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام" و"المقنع في الغيبة" وكتاب "إنقاذ البشر من القضاء والقدر". وهناك الكثير من الكتب والرسائل التي لا يتسع المقام لذكرها. هذا ما له في المعقول، وأما ما كان له من الكتب في المنقول، فله في أصول الفقه "الذريعة" في كل مباحث أصول الفقه وكتاب "مسائل الخلاف في أصول الفقه"، وكتاب "المسائل المفردة في أصول الفقه" كمسألة ابطال القياس، مسألة في دليل الخطاب، مسألة التأكيد وأمثال ذلك، وأما مصنفاته في الفقه فله "جمل العمل في العبادات الأربع"، وكتاب "الانتصار" وغير ذلك العشرات من الكتب والرسائل التي كانت أجوبة لأسئلة كانت ترده من مختلف الأمصار والأقطار وأما في التفسير وعلوم القرآن، فله تفسير سورة الحمد وقطعة من سورة البقرة، وكتاب "المحكم والمتشابه"، وكتاب "الموضح عن حجة اعجاز القرآن"، وأما في الأدب والمحاضرات فله الأمالي المسمى بالدر الغرر، وكتاب "شرح الخطبة الشقشقية"، وكتاب "الشيب والشباب"، وكتاب "الطيف والخيال"، وكتاب "تتبع ابن جني فيما تتبعه في أبيات المتنبي"، وكتاب "التعرض على ابن جني في الحكاية والمحكي"، وكتاب "المرموق في أوصاف البروق" وديوان شعره الذي تضمن عشرين ألف بيت..."(10).
* أقوال العلماء فيه
يقول عنه معاصره الثعالبي (ت 429هـ): "انتهت الرياسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والكرم، وله شعر في نهاية الحسن..."(11) وترجمه تلميذه النجاشي بقوله: "أبو القاسم المرتضى حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلماً، شاعراً، أديباً عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا..."(12). ونقل ابن خلكان عن ابن بسام في أواخر "الذخيرة" قوله: "كان هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الاختلاف والافتراق، إليه فزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها، وجماع شاردها وآنسها..."(13). وذكر ابن حجر العسقلاني أن المرتضى كان لا يؤثر على العلم شيئاً مع البلاغة وفصاحة اللهجة... وذكر ابن حجر على لسان أبي إسحاق الشيرازي أن المرتضى أول من بسط كلام الإمامية في الفقه وناظر الخصوم واستخرج الغوامض وقيَّد المسائل(14). ونخلص للقول بأنه: "كان للمرتضى ميزتان بارزتان: إحداهما: المقام الاجتماعي المرموق. وثانيهما: إلمامه بعلوم عصره وتبحره في فنون المعارف المتداولة في زمانه"(15).
(1) قارن: المنتظم لابن الجوزي، ج7، ص276، والكامل لابن الأثير، ج9، ص189.
(2) روضات الجنات للخوانساري، طبعة إيران، ج2، ص383، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج11، ص13.
(3) انظر: رجال النجاشي، ص192، فهرست الطوسي، ص100 97، معالم العلماء لابن شهر آشوب 71 - 69.
(4) روضات الجنات، ج6، ص375.
(5) انظر: أعيان الشيعة، محسن الأمين، ج41، ص188، وروضات الجنات، ج4، ص24.
(6) رجال النجاشي، ص283، المنتظم لابن الجوزي، ج8، ص11.
(7) انظر: الثعالبي، يتيمة الدهر، ج2، ص297، والمنتظم، ج8، ص120.
(8) انظر: السيد علي الخامنئي، دراسة عن دور الشيخ المفيد، ص39 38.
(9) انظر: رسائل المرتضى، المجموعة الأولى، ص 40 7.
(10) تأسيس الشيعة، حسن الصدر، ص391.
(11) تتمة يتيمة الدهر، ج5، ص69.
(12) رجال النجاشي، ص194.
(13) وفيات الأعيان، ابن خلكان، ج3، ص3.
(14) لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني، ج4، ص223.
(15) النظريات الكلامية عند الطوسي، علي محمد جواد فضل اللَّه، ص31.