الشيخ نعيم قاسم
رسالةُ الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام رسالةٌ جامعة وشاملة لمعالجة شؤون الإنسان في علاقاته الثلاث: مع ربِّه، ونفسه، ومجتمعه. فهي لم تترك موضوعاً من موضوعات الحياة الإنسانية الهامة، تربوياً، وأخلاقياً، وفردياً، واجتماعياً، إلاَّ وتطَّرقت إليه.
* طُرق الرسالة
نُقلت إلينا هذه الرسالة من طُرقٍ عدة، أبرزها: عن العلامة الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه (من لا يحضره الفقيه). وهو من الكتب الأربعة المشهورة عند الإمامية. وفي (الخصال)، وقد روى الشيخ الرسالة بسنده عن أبي حمزة المتوفي عام 150هـ، وطريق الرواية عن أحمد بن علي، قال: حدثنا الحسن بن حمزة قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين عليه السلام(1). وكذلك نقلها العلامة المحدِّث الحسن ابن شعبة الحرَّاني، المعاصر للشيخ الصدوق في كتابه (تحف العقول عن آل الرسول) باختلاف يسير.
* خمسون حقاً
تتألف رسالة الحقوق من خمسين حقاً، "ذكرها الإمام زين العابدين عليه السلام ملخصةً في مقدمة الرسالة بتعدادها، مبيناً الصلة فيما بين الحقوق، ثم فصَّل كلَّ حق من الحقوق الخمسين بفقرة مستقلة، موضِّحاً فيها أبرز معالم الحق المقصود، فنتج عن ذلك دستورٌ في تنظيم العلاقات الاجتماعية على هدي الإسلام، يحفظ حقوق الفرد، ويُرشده إلى كيفية حفظ حقوق الآخرين، بما يحقِّق له إنسانيته وسعادته في الدنيا، وثوابه في الآخرة"(2). رسم الإمام زين العابدين عليه السلام في ملخص مقدمة (رسالة الحقوق) صورةً متماسكة ومتقنة للحقوق الخمسين، رابطاً بينها بصلةٍ تبيِّن علاقة أولها بآخرها، وما بينهما، ما يؤدي إلى رؤيتها في مشهد إنساني واحد، كما هو حال الجسد الواحد، وفي أدوارها المختلفة التي يحركها شخص واحد.
ابتدأ الإمام عليه السلام الملخص بقوله: "اعلم رحمك الله أنَّ لله عليك حقوقاً محيطة لك، في كل حركةٍ تحرَّكتها، أو سَكَنَةٍ سكَنْتها، أو منزلةٍ نزلتها، أو جارحةٍ قلبتها، وآلةٍ تصرفت بها"(3). فالحقوق شاملةٌ لشؤون الإنسان، وهي تحمِّلُه المسؤولية في جوانب حياته المختلفة، بحدودها التي يُظهِرها الأمرُ الإلهي. وأمَّا اعتبارها حقوقاً لله تعالى، فلأنَّها ترجمةٌ للإيمان بنهجه من خلال تعاليم الإسلام، ثم تفصِّل الرسالة حقوق النفس والآخرين في إطار حدود الله تعالى وتعاليمه، ليكون مقياسُ الموافقة أو المخالفة للإسلام مرتبطاً بمدى انطباق الأفعال مع منظومة الحقوق. ثم قال عليه السلام: "وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى، من حقِّه الذي هو أصل الحقوق، ومنه تُفرِّع".
ذكر الإمام عليه السلام حق الله تعالى في أول فقرة من الرسالة، على قاعدة أن البداية من هدي الله تعالى، ومن هذا المنطلق تتقوَّم الحقوق الأخرى. ثم قال عليه السلام: "ثم أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك".الحق الثاني هو حق النفس، التي ينطلق منها السلوك الإنساني نحو الخير أو الشر، لذا تحدَّث الإمام عليه السلام عن بوابات العبور إلى النفس الإنسانية، وهي الجوارح السبع: (البصر، والسمع، واللسان، واليدان، والرجلان، والبطن، والفرج)، ثم قال: "فهذه الجوارح السبع، التي تكون بها الأفعال"، وعددها أربعة: الصلاة، والصوم، والصدقة، والحج. إذاً، حقوق الجوارح السبع العمل على استقامتها، وضبطها بما يَرضى الله تعالى عنه من السلوكيات. هذه الجوارح هي التي تؤدي أفعال العبادات التي تصقل الشخصيّة الإنسانيّة المستقيمة، عند أدائها بحسب التفصيل الشرعي.
* الحقوق منك إلى غيرك
ينطلق الإمام زين العابدين عليه السلام من حق النفس إلى ما يتفرع عنها، فيقول: "وتخرج الحقوق منك إلى غيرك"، وهي الحقوق المترتبة على العلاقة مع الآخرين، وقد قسَّمها الإمام زين العابدين عليه السلام إلى أقسام بقوله: "وأوجبها عليك حقوق أئمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك"، فالأقسام الرئيسة ثلاثة:
1- "فحقوق أئمتك ثلاثة، أوجبها عليك: حق سائسك بالسلطان، ثم سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك، وكل سائس إمام"، أي حقوق مواقع القيادة في الأمور الثلاثة.
2- "وحقوق رعيتك ثلاثة، أوجبها عليك: حق رعيتك بالسلطان، وحق رعيتك بالعلم، فإنَّ الجاهل رعية العالم، وحق رعيتك بالملك من الأزواج، وما ملكت من الأيمان"، أي حقوق الرعية الذين تتحمَّل مسؤوليتهم في الأمور الثلاثة أعلاه، فالفرق واضح بين موقع المسؤول والرعية في كل شأن.
3- "وحقوق رحمك كثيرة متصلة"، كحقوق الأب والأم والأخ والقرابة...
ثم ينتقل الإمام عليه السلام بعدها إلى حقوق كثيرة لا تنطبق عليها العناوين المدرجة أعلاه، ولكنها ترتبط بعلاقات الإنسان الاجتماعية، وحاجات الآخرين منه، وحاجاته منهم، بحسب الحالة التي يكون عليها، ومنها: حق ذي المعروف، والمستشير، والشريك، والمدَّعي، والمدَّعى عليه، والخصم، والأصغر منك، والأكبر منك، والسائل، وأهل الملة.
* التكامل الإنساني
هذا التدرج في ملخص الرسالة من حق الله، ثم حق النفس، ثم حقوق الناس، يبيِّن ترابط المنظومة الإسلامية في تربية الشخصية الإنسانية على التكامل، والفضائل الفردية والاجتماعية، وهذه السعة في إفراد الحديث عن خمسين حقاً، يُبرز الاهتمام بكل ما يحيط بالإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي؛ لتتلاقى مساراته المختلفة على منظومةٍ واحدة، وحقوقٍ متماسكة، ما يجعل الأداء الإنساني في أفضل نماذجه البشرية. وقد انطلقت الرسالة من الحقوق، كواجبات تجاه الآخرين، بخلاف المنظومات المادية التي تحرِّض على الحقوق كمكتسبات، وتحاول تحرير الإنسان من الواجبات، بإطلاق العنان لحريته الشخصية؛ ليغرف من الملذَّات من دون حساب. وليحقق ما يعتقده مصلحة له، وينسجم مع هواه، من دون ضوابط كابحة.
* المقارنة مع الإعلان العالمي
لقد سبقت رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948 بما يزيد عن 1300 سنة، وتميزت عنه بأمور:
1- نسَّقت رسالة الحقوق منظومة القيم الفردية والمجتمعية في إطار تكاملي مترابط، يُبيِّن الأولوية، والصلة بين الحقوق، ما يجعلها مؤثرة بطريقة تكاملية، بينما ذكر إعلان الأمم المتحدة موادَّ تتحدث عن جوانب مختلفة، من دون أن توجد شبكة التواصل والعلاقة بينها، فهي حقوق مبعثرة.
2- ربطت رسالة الحقوق بين الأداء المادي، والصلة الروحية بالله تعالى، أي خاطبت الروح والجسد في توازنٍ دقيق وفعَّال، فجعلت من الصلة بالله رادعاً وحافظاً لحسن أداء الحقوق. بينما ركَّز إعلان الأمم المتحدة على الجوانب المادية فقط، فكان أقرب إلى النصائح من دون ضابط إيقاع، وتوجيه لتعزيز التطبيق العملي، أو الردع عن المخالفة.
3- قدَّم الإمام عليه السلام رسالته بتلخيص إجمالي في بدايتها، ثم فصَّل الحقوق الخمسين واحداً بعد الآخر، في ترتيب يعتبرونه في زماننا المعاصر أرقى أنواع الكتابة للتقارير والرؤى. بينما تمت صياغة إعلان الأمم المتحدة بمقدمة عامة موجزة، تبعها ثلاثون مادة متنوعة.
4- أشبعت رسالة الإمام عليه السلام كل حق بمستلزماته، فتحدثت عن الحقوق الخمسين على تنوعها، بمنهجية واحدة، فحقوق اللسان، والصلاة، والأب، والجار، والمدَّعي، وأهل الملّة... إلخ، قد استوعبت الأسس التي تنصفها، في إطار التشريع الإسلامي، بينما دمج إعلان الأمم المتحدة بين أفكار عدّة في بعض مواده، كتوجيهات من دون قواعد متكاملة، رابطاً مستند الحماية للحقوق بالقانون بحسب كل دولة.
5- لا شك بأن إعلان الأمم المتحدة إنجاز إنساني، حاول استخلاص بعض القواعد العامة التي تحاكي بنسبة مهمة الفطرة الإنسانية، ولكن رسالة الإمام زين العابدين عليه السلام إنجاز ربَّاني، يحاكي الفطرة الإنسانية بجميع متطلباتها، ويرسم لها معالم صلاحها وسعادتها.
1.فهرست أسماء مصنفي الشيعة، النجاشي، ص: 116.
2.راجع: في رحاب رسالة الحقوق، شرح رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام، للمؤلف، ص: 13.
3.تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحرَّاني، رسالة الحقوق، ص: 255.