السيّد علي عبد المنعم مرتضى
المقرّبون كلمة عندما يعيها الإنسان يشعر بالارتياح والطمأنينة، وتتطلّع نفسه ليكون واحداً منهم، وليس ذلك بعزيز، ولا هو من المستحيل في شيء. وإدراك عظيم ما يصل إليه المقرّبون حريّ بأن يبذل المرء في سبيله العمر كلّه. فما هي صفاتهم؟ وما هو مآلهم وحسن خاتمتهم؟ وبمَ وصلوا إلى مقام القرب الرفيع؟ أسئلة نسعى للإجابة عنها في هذه الصفحات.
المقرّبون كلمة مشتّقة من القرب في مقابل البعد، وهما من المعاني المتضايفة الّتي تتّصف بها الأجسام بحسب نسبتها إلى المكان، فيقال هذا المنزل قريب من ذلك السهل مثلاً وبعيد عن ذلك الجبل، فهذا قرب وبعد مكاني أي بالنسبة إلى مكان محدّد. ثمّ تُوُسّع في هذا المعنى وأصبح يُستعمل القرب والبعد في الزمان ونحوه فيقال مثلاً الغد قريب من اليوم ﴿... إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ (هود: 81)، والأربعة أقرب إلى الثلاثة من الخمسة، واللون الأخضر أقرب إلى السواد من اللون الأبيض، ثمّ تُوسّع في هذا المعنى فاعتُبر القرب والبعد في غير الأجسام والجسمانيات من الحقائق.
* قرب الله من العباد
استُعمل القرب وصفاً لله سبحانه وتعالى بما له من الإحاطة بكلّ شيء:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ... ﴾ (البقرة: 186)، وقال تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ (الواقعة: 85)، وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿... وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق:16). وهذا من أعجب المعاني الّتي يمكن أن تُتصوّر في القرب، حيث يكون الله سبحانه وتعالى أقرب للشيء من نفس الشيء!
* الملائكة المقرّبون
واستُعمل القرب في القرآن الكريم وصفاً للملائكة: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِله وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً﴾ (النساء: 172). وبالتأمّل بصفة القرب في الملائكة وصفة القرب في الإنسان الآتي الحديث عنها يُعلم أنّه ليس من الضروري أن يحصل الملائكة على هذا المقام بالاكتساب والجدّ والعمل، فلعلّ ما يحرزه الملائكة المقرّبون من هذا المقام وغيره بهبةٍ إلهيّة وعطيّةٍ ربّانية.
* عبادٌ مقرّبون
وقبل الدخول في وصف المقرّبين لا بأس بمعرفة معنى التقريب من خلال قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (الواقعة: 7ـ11). وهذا تقرّب من الله سبحانه وتعالى، وحقيقته أن يسبق بعض الناس سائر أفراد الإنسان في سلوك طريق العودة إلى الله سبحانه، باختيارهم وملء إرادتهم حتّى يحصلوا على هذا المقام فلا يحول بينهم وبين ربّهم شيء أبداً، ممّا يقع عليه الحسّ، أو يتعلّق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان، فإنّ كلّ ما يتراءى لهم ليس إلا آية كاشفة عن الحقّ المتعال، لا حجاباً ساتراً، فيفيض عليهم ربّهم علم اليقين، ويكشف لهم عمّا عنده من الحقائق المستورة عن هذه الأعين الماديّة العمية بعدما يرفع الستر فيما بينه وبينهم كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (المطففين: 18 21). وقوله تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ (التكاثر: 5 6).
ولما كان القرب وصفاً للعباد في مرحلة العبودية لله سبحانه، وفي نفس الوقت هو أمر اكتسابي يحصل عليه من خلال عمله وسعيه، فمعنى تقرّب العبد بصالح الأعمال إلى الله سبحانه هو وقوعه في معرض شمول الرحمة الإلهية بزوال أسباب الشقاء والحرمان، والله سبحانه يقرّب العبد بمعنى إنزاله منزلة يختص بإكرامه تعالى ومغفرته ورحمته، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (المطففين: 20 21)
* صفة المقربين
إنّ أبرز صفة للمقرّبين كما في الآيات السابقة هي أنّهم سابقون. ومن خلال قوله تعالى يُعلم أنّهم سابقون في فعل الخير ﴿... فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32) وقوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ... ﴾ (البقرة: 148). فهم سبقوا جميع أفراد نوعهم في فعل الخير الّذي يقرّب إلى الله سبحانه، ويجعلهم محلّ عنايته ورضوانه، لذلك فهم بهذا العمل قد سبقوا إلى المغفرة والرحمة كما قال تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ (الحديد:21 )، فالسابقون بالخيرات هم السابقون بالرحمة وهم: ﴿السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾.
* المقرّبون والأبرار
من خلال بعض آيات سورة المطفّفين يمكن استنتاج أمرين مهمّين هما:
1 يشرب الأبرار من الرحيق المختوم ولكن التسنيم أفضل من الرحيق المختوم.
2 المقرّبون أعلى درجة من الأبرار. والمقرّبون يشربون من التسنيم صرفاً كما في قوله تعالى ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ (المطفّفون: 27 و28) فيما يشرب الأبرار من الرحيق المختوم.
* شروط القرب
لكي يصل الإنسان إلى درجة القرب الإلهي عليه أن يحقّق شروطه:، وهي عبارة عن: المعرفة والإيمان والعمل.
فإنّ المعرفة والإيمان بالله تعالى هما أساس التكامل والقرب الإلهي، وكذلك معرفة الهدف الّذي يؤول إليه. ومن المعرفة أيضاً معرفة النبيّ والإمام. ومن لا يعرف هذه الأمور كيف يتحرّك ويمشي على صراط القرب من الله سبحانه؟ ولا بدّ أن تقرن أيّ معرفة بالعمل، إذ لا جدوى من معرفة لا ينتج عنها عمل. ومن هنا كان العمل شرطاً أساساً بعد المعرفة في عملية القرب من الله سبحانه، يقول تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة: 11).
ثمّ إنّ عملَ الإنسان حتّى لو كان عملاً صالحاً فإنه لن يثمر تلك الحياة الطيّبة إذا لم يكن مقروناً بالإيمان. فالإيمان شرط أساس لوصول الإنسان إلى الحياة الطيبة: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل:97). والطيِّب لا يبقى في الأسفل، بل يصعد إلى الله سبحانه وتعالى، حيث مقام القرب، يقول تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر:10).
عن معاوية بن وهب قال: "سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم وأحبّ ذلك إلى الله عزّ وجلّ ما هو؟
فقال: ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة. ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى ابن مريم عليه السلام قال: ﴿... وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً﴾"(1).
وفي رواية أخرى عن محمّد بن الفضيل قال: "سألته [أي الإمام الباقر عليه السلام] عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى الله عزّ وجلّ، قال: أفضل ما يتقرّب به العباد إلى الله عزّ وجلّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، وقال أبو جعفر عليه السلام: "حبّنا إيمان وبغضنا كفر"(2). والروايات بهذا المضمون تبلغ حدّ الاستفاضة، ويكفي مراجعة باب طاعة الإمام من كتاب الكافي للوقوف على هذا المضمون.
* جنّةُ النعيم جنّةُ الولاية
إنّ من زُحزح عن النار فقد فاز، وذلك أدنى درجات الجنّة. ولكن هناك درجات أعلى وأرفع ينالها الإنسان بعمله وحسن اختياره، فما هي درجة المقرّبين؟
هي جنّة النعيم؛ يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ (الواقعة: 88 89). وجنّة النعيم كما في الروايات الشريفة هي جنّة الولاية، وما نودي بشيء كما نودي بالولاية، وقد ذهب إلى هذا المعنى صاحب تفسير الميزان قدس سره.
نسأل الله سبحانه أن يوفّقنا للمعرفة والعمل بها، ويجعلنا من المقرّبين في الدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 264.
(2) م. ن، ج 1، ص 187.