إعداد: التحرير
رجال نصروا الحسين على قلّتهم وأرخصوا له الدماء الغالية ولقوا جبال الحديد واستقبلوا الرماح بصدورهم والسيوف بوجوههم والنبال بنحورهم وبذلوا مهجهم دونه وهم يقولون: لا عذر لنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله إن قُتل الحسين عليه السلام ومنّا عين تطرف. لا والله لا يكون ذلك أبداً حتّى نُقتل دونه... حتّى وصفهم أحد أعدائهم بقوله: "..أتدرون من تقاتلون؟! إنّما تقاتلون فرسان المصر, وأهل البصائر, وقوماً مستميتين..." (1). وكان منهم وعلى رأسهم الصحابيّ الجليل زعيم الأسديّين حبيب بن مظاهر الأسديّ الذي عُرف بجلالة قدره وقوّة إيمانه وسعة علمه وشدّة تعلّقه بأهل بيت النبوّة حتّى مضى مضرّجاً بدماء الشهادة بين يدي أبي عبد الله عليه السلام...
* الاسم والنسب
هو حبيب بن مظهَّر (وقيل مظاهر) بن رئاب بن الأشتر بن جخوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قيس بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد الأسدي(2).
* الكنية
أبو القاسم الأسديّ الفقعسي(3).
* النشأة
كان حبيب رضي الله عنه من خواصّ أمير المؤمنين عليه السلام وأصفيائه (4) وحملة علومه، وقد شاركه في حروبه كلّها(5). وكان من شرطة الخميس (6). وكان قد عُلِّم عِلم البلايا والمنايا. وقصّته مشهورة مع ميثم التمّار (7). وكان من أصحاب الإمام الحسين وخاصّته, وكانت له رتبة علميّة سامية وهو زعيم بني أسد.
* مواقفه قبل كربلاء
كان حبيب في جملة من كاتب الإمام الحسين عليه السلام مع جماعة من أصحابه, وكان في الكتاب: "... أمّا بعد, فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزّها وغصبها فيأها وتأمّر عليها بغير رضى منها, ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها, فبعداً له كما بعدت ثمود. إنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله يجمعنا معك على الحقّ..."(8). وقد وفى له بما كتب حتّى قُتل بين يديه (9). وكان يأخذ البيعة للإمام عليه السلام مع مسلم بن عوسجة في الكوفة, حتّى دخل عبيد الله بن زياد الكوفة وخذل أهلها مسلماً وفرّ أنصاره, فحبستهما عشيرتهما وأخفتاهما. ولمّا ورد الحسين عليه السلام كربلاء خرجا إليه متخفّيين يسيران الليل ويكمنان النهار حتّى وصلا إليه (10), والتحقا بالإمام عليه السلام في اليوم السادس من المحرّم(11). وكان له من العمر حينما التحق بالإمام الحسين عليه السلام 75 سنة (12).
* مواقفه في كربلاء
وبعدما رأى حبيب قلّة أنصار الحسين عليه السلام استأذن من الإمام قائلاً: "إنّ ها هنا حيّاً من بني أسد, فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك لعلّ الله يهديهم ويدفع بهم عنك"... وممّا قاله لبني أسد بعدما أذن له الإمام عليه السلام: "يا بني أسد, إنّي قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه. هذا الحسين بن عليّ ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه, فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله فيه, فوالله لئن نصرتموه ليعطينّكم الله شرف الدنيا والآخرة. وقد خصصتكم بهذه المكرمة لأنّكم قومي, وبنو أبي, وأقرب الناس منّي رحماً..."(13). كان على ميسرة أصحاب الحسين عليه السلام, وكان خفيف الإجابة لدعوة المبارز (14) لقوّته وشجاعته وتفانيه في الدفاع عن أبي عبد الله عليه السلام. وكان حبيب قد كلّم القوم في التاسع من المحرّم بعدما زحف جيش ابن سعد على معسكر الحسين عليه السلام فقال لهم: "أما والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرّية نبيّه صلى الله عليه وآله وعترته وأهل بيته وعبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً" فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت (15), فقال زهير بن القين: "يا عزرة, إنّ الله قد زكّاها وهداها فاتقِ الله يا عزرة فإنّي لك من الناصحين... " (16). وفي ليلة العاشر من المحرّم نادى حبيب أصحابه: "يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة" فتطالعوا من مضاربهم, فقال لبني هاشم: "ارجعوا إلى مقرّكم لا سهرت عيونكم", وذلك بعدما أخبره نافع بن هلال خشية السيّدة زينب عليها السلام من تخاذل أصحابه عند الوثبة, ثمّ قال لأصحابه: "هلمّوا معي لنواجه النسوة ونطيّب خاطرهن", فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح: " يا معشر حرائر رسول الله هذه صوارم فتيانكم آلوا ألّا يغمدوها إلّا في رقاب من يريد السوء فيكم, وهذه أسنّة غلمانكم أقسموا ألّا يركزوها إلّا في صدور من يفرّق ناديكم" فخرجن النساء إليهم بالبكاء والعويل وقلن: "أيها الطيبون, حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين" (17), فضج القوم بالبكاء حتى كأن الأرض تميد بهم. وكان الإمام الحسين قد قال لأخته الحوراء زينب: "والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلّا الأشوس الأقعس, يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب أمّه" (18). وبعد أن دارت رحى الحرب واستعر أوارها وسقط العديد من الشهداء والقتلى, وبعد أن صلّى الإمام بأصحابه صلاة الخوف, خرج حبيب يوم العاشر من المحرّم غير مبال بالموت في سبيل الحق -وهو يضحك, فقال له يزيد بن حصين سيّد القرّاء-: يا أخي ليس هذه ساعة ضحك, قال حبيب: "فأيّ موضع أحقّ من هذا بالسرور؟! والله ما هو إلّا أن يميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين"(19).
* الشهادة
وحين استأذن الإمام الحسين عليه السلام أهل الكوفة ليصلّي الظهر وطلب منهم المهلة لأداء الصلاة قال له الحصين بن نمير: إنّها لا تُقبل منك. فقال له حبيب: "زعمت أنّها لا تُقبل من آل رسول الله وتُقبل منك يا حمار" (20), فحمل عليه الحصين وحمل عليه حبيب فضرب حبيب وجه فرس الحصين بالسيف فشبّ به الفرس ووقع عنه فحمله أصحابه واستنقذوه. فجعل حبيب يحمل على القوم وهو يقول:
أو شطركم ولّيتم أكتادا |
أقسم لو كنّا لكم أعدادا |
ثمّ قاتل القوم فأخذ يحمل عليهم بسيفه وهو يقول: |
يا شرّ قوم حسباً وآدا(21) |
فارس هيجاء وحرب تسعر |
أنا حبيب وأبي مُظهَّر |
ونحن أوفى منكم وأصبر |
أنتم أعدّ عدّة وأكثر |
حقّاً وأتقى منكم وأعذر |
ونحن أعلى حجّة وأظهر |
ولم يزل يقولها حتّى قتل من القوم على كبر سنّه مقتلة عظيمة (22), ثمّ حملوا عليه وقتلوه واحتزّوا رأسه الشريف.
* مكانة حبيب عند أهل البيت عليهم السلام
جاء أنّ الإمام الحسين عليه السلام قال بعد مقتله: "لله درّك يا حبيب لقد كنت فاضلاً تختم القرآن في ليلة واحدة" (23). وقد هدّ مقتله الحسين عليه السلام وقال فيه: "عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي" (24). كما قام الإمام السجّاد عليه السلام بدفنه في كربلاء. ويقال إنّ بني أسد دفنوا حبيباً في قبر وحده عند رأس الحسين عليه السلام، حيث قبره الآن، اعتناءً به لأنّه أسدي. وكان من ضمن من نالوا شرف سلام الإمام الحجّة في زيارة الناحية المقدّسة(25). وبهذا صار وأصحابه أفضل الشهداء, واستحقّوا وقوف الأئمّة عليهم السلام على قبورهم وزيارتهم لهم بقولهم: "بأبي أنتم وأمّي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم والله فوزاً عظيماً فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم" (26). والسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.
(1) تاريخ الطبري، الطبري، ج 5، ص 435. والقائل هو: عمرو بن الحجّاج الزبيدي.
(2) إبصار العين في أنصار الحسين, الشيخ محمد السماوي، ص 100.
(3) م. ن، ص 100.
(4) الاختصاص, الشيخ المفيد، ص 20.
(5) إبصار العين في أنصار الحسين، م. س، ص 101.
(6) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3 ص 250.
(7) رجال الكشّي (اختيار معرفة الرجال)، الشيخ الطوسي، ص 78, رقم 133.
(8) أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 4، ص 554.
(9) ذخيرة الدارين فيما يتعلّق بالحسين وأصحابه، السيد عبد المجيد الحائري، ص 349.
(10) مقتل الحسين وأنصاره، نجاح الطائي، ص 130.
(11) مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، الشيخ محمد جعفر الطبسي، ج 4، ص 157.
(12) أعيان الشيعة، م. س، ج 4، ص 554.
(13) ذخيرة الدارين فيما يتعلّق بالحسين وأصحابه، م. س، ص 350.
(14) إبصار العين في أنصار الحسين، م. س، ص 104.
(15) تاريخ الطبري، م. س، ج5 ص 417.
(16) مقتل الحسين المقرّم، ص211.
(17) ليلة عاشوراء في الحديث والأدب، الشيخ عبد الله الحسن، ص 48.
(18) م. ن، ص 219.
(19) رجال الكشّي، م. س، ص 79, وفي بعض المصادر أنّ القائل برير بن خضير.
(20) تاريخ الطبري، م. س، ج 4، ص 334.
(21) آد تعني القوّة.
(22) إبصار العين في أنصار الحسين، م. س، ص 105.
(23) وسيلة الدارين في أنصار الحسين، م. س، ص 126.
(24) إبصار العين في أنصار الحسين، م. س، ص 106.
(25) الإقبال السيد ابن طاووس، ص46.
(26) مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، ص 612, زيارة شهداء. كربلاء في يوم عرفة.