مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

إنه حق الجهاد


آية الله الشيخ جوادي آملي (حفظه الله)


قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ (الحج: 78).

وفي زيارة الجامعة الكبيرة، نخاطب أئمّة أهل البيت عليهم السلام بقولنا: "وجاهدتم في الله حقّ جهاده"(1)، وكذلك في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام الموسومة بـ"أمين الله": "أشهد أنّك جاهدتَ في الله حقّ جهاده"(2)، وأيضاً في زيارة الإمام الحسين عليه السلام في ليالي القدر: "وجاهدتَ في الله حقّ جهاده"(3). فما المراد من حقّ الجهاد؟ هذا ما سنحاول الإضاءة عليه في هذه المقالة حسبما جاء في بيانات العالِم الجليل الشيخ جوادي آملي (حفظه الله).


* الجهاد "في الله" وفي "سبيل الله"
قد يتصوّر بعضهم أنّ معنى الجهاد في الله هو نفسه الجهاد في سبيل الله، إلّا أنّ كلمة "سبيل" قد حذفت من البَيْن. لكنْ ثمّة فارق لطيف بينهما، وهو كلمة "سبيل"، التي توسّطت بين كلمتي "في" و"الله". فهناك "جهاد في الله" وهناك "جهاد في سبيل الله"، والأوّل أقرب وأشدّ إخلاصاً لله تعالى. ونظير ذلك ما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ (العنكبوت: 10)، حيث يكون الباعث والدافع الوحيد وراء ظلم المشركين للمؤمنين هو قولهم: "ربّنا الله". أمّا قوله سبحانه: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي﴾ (آل عمران: 195)، فسبب الظلم هنا هو سلوك المؤمنين طريق الحقّ واتّباع دين الله تعالى.

* جذبهم حبّ الله
إذاً، عندما يكون الجهاد والهجرة وتحمّل الأذى ونحو ذلك "في الله"، فمثل ذلك كمثل المظروف (ما يوضع في الظرف) والله تعالى هو ظرفه. وكما إنّ كلّ مظروف يُحفظ ويُصان بوساطة ظرفه، ويأخذ شكل الظرف وصفاته، فكذلك الجهاد والهجرة وتحمّل الأذى وغيرها تأخذ شكل الظرف وصفاته؛ أي تأخذ الشكل والصفات المتعلّقة بالله تعالى، وتُحفظ بوساطته، ويظهر بينهما كمال السنخيّة والمناسبة.

هذه المناسبة الشديدة تحمل معها نوع العلّيّة والغرض، بمعنى أنّ مظروف هذه الأمور ناشئ من وجود علاقة ورابطة بين فاعل هذه الأمور وبين الله، وأنّ عشق الله وإرادته تعالى هما العلّة الغائيّة للجهاد والهجرة وتحمّل الأذى وغيره؛ لأنّ غرض المجاهد والمهاجر وغيرهما هو الله تعالى وحدَه لا غير. وعلى هذا، فطلب رضى الله تعالى قد أخذ بكلّ وجوده، بحيث إنّ الظرف قد جذب المظروف إليه.

* حقّ الجهاد
هذا التركيب بين هاتين الكلمتين هو في الأصل من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي الجهاد الحقّ، كما أنّ الكلمة في الأصل: "حقّ الجهاد فيه". فتقديم الحقِّ على الجهاد من ناحية، وإضافة الضمير العائد إلى الله تعالى إلى كلمة الجهاد واختصاصه به تعالى من ناحيةٍ أخرى، إنّما هو لأجل إفادة المبالغة أكثر. وقد فسّر بعضهم "حقّ الجهاد" في قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ بمعنى الطاعة بلا معصية، أو بمعنى المجاهدة لأهواء النفس، أو بمعنى الجهاد الحقيقيّ مع الكفّار بلا مسامحة، وإن كانوا من الآباء والأبناء(4). لكن هذه التفاسير كلّها هي من قبيل المصداق للجهاد الحقّ. وكلّ جهاد يكون مع الإخلاص الكامل، وبذل الجهد، والصبر، دون طمع بالغنائم الماديّة، أو اعتناء بالشهوات الدنيويّة، ودون وجود أيّ سبب أو معصية تدفع المجاهد ليستمرّ في جهاده أو ينسحب ويتراجع، يمكن وصفه بـ"حقّ جهاده". وبذلك يتّضح أنّ حقّ جهاده مرتبة أعلى من حقّ الجهاد أيضاً.

* تبدّل الجهاد إلى حقّ الجهاد
ثمّة عوامل عديدة يمكنها أن تبدّل الجهاد وتجعل منه حقّ الجهاد، منها:

1- مشقّة القتال وصعوبته: صعوبة القتال تنشأ إمّا من زمان القتال، وأخرى من مكانه، أو غير ذلك. وأشدّ أنواع الجهاد بالنسبة إلى ما ذكرنا من الصعوبة يمكن تسميته بحقّ الجهاد، وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "أفضل الأعمال أحمزها"(5). والنموذج البارز لهذا الأصل الجامع نجده في الآية الكريمة: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (الحديد: 10).

2- الإخلاص لله تعالى:
حيث يكون لدى المجاهد همٌّ واحدٌ وعزمٌ جدّي. فإنّ كلّ عمل يأخذ قيمته بحسب مرتبة النيّة. والمجاهد الذي لا يكون قصده خالصاً لا يمسك بطرف حقّ الجهاد. وهذا ما نجده في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام، المجاهد الأوّل، والشجاع السابق في تاريخ الإسلام، حينما وبّخ بعض عمّاله، فإنّه يُستنبط منه الوصيّة بالإخلاص في النيّة: "وكأنّك لم تكن اللهَ تريد (أردت) بجهادك، وكأنّك لم تكن على بيّنة من ربّك"(6).

ومن جملة وظائف قادة الجيش ومسؤوليّاتهم التي يبيّنها في كتابه لمالك الأشتر، هو أن يكون لديهم همٌّ واحد: "وليكن آثر رؤوس جندك عندك، مَن واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جِدَته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتّى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدوّ"(7). إنّ العزم الذي هو أمر غير الجهاد، ويعمل في دائرة إرادة المبارز وقصده، له دور في اتّصاف الجهاد بالحقّ أيضاً؛ وذلك لأنّ الإنسان ليس لديه محوران للإرادة: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ (الأحزاب: 4)، كما أنّه لا يتّجه في المحور الواحد لأكثر من مقصود واحد. ولذا، ورد في دعاء أهل الثغور للإمام السجاد عليه السلام حول وحدة الهمّة واجتماع العزم ونظم الإرادة وعدم الفرقة قوله: "اللهمّ صلِّ على محمّد وآله، وأَنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة الغرور، وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفَتون"(8).

3- النظرة القدسيّة للجهاد:
إنّ اعتبار الجهاد أمراً مقدَّساً (وليس مجرّد تكليف) له أثر في جعل الجهاد متّصفاً بحقّ الجهاد؛ لأنّ العاشق للجهاد يعرف المجاهدة على أكمل وجه، ويجعلها تثمر، خلافاً للخائف من عذاب النار، أو الراغب في ثواب الجنّة، أو الذي يطمع في غنيمة الحرب وما شاكل، والعمل الذي يُبنى على الشوق الكبير لا يُستمدّ من غيره. لذا، كان أمير المؤمنين عليه السلام يشتكي متأسّفاً ومتأثّراً من فراق مثل هؤلاء المجاهدين الوالهين، والمبارزين الإلهيين الذين كان شوقهم إلى جهاد الأعداء كاشتياق الناقة الأمّ إلى أولادها: "أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الإِسْلَامِ فَقَبِلُوه، وقَرَأُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوه، وهِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَه اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلَادِهَا"(9)؟

4- عدم الخوف من الملامة: أحد عوامل اتّصاف الجهاد بحقّ الجهاد هو أنّ المجاهد الشجاع لا يخاف في الله لومة لائم؛ لأنّ الخوف من الملامة يضرّ بكميّة الجهاد وكيفيّته الخلوص. وهذه الملامة تارةً تكون من شيطان إنسيّ، وأخرى تكون من إبليس جنّيّ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ ِعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة: 54). ويظهر من الآية أنّ أحباب الله الخاصين الذين هم في المقام المنيع للمحبوب، مصونون أيضاً عن الخوف من لومة لائم، وفي النتيجة يمكن أن يكون جهادهم "حقّ جهاده".


1- من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج2، ص612.
2- كامل الزيارات، ابن قولويه، ص92.
3- المزار، المشهديّ، ص515.
4- مجمع البيان، الطبرسي، ج 7، ص 172- 173، ذيل الآية الكريمة.
5- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 67، ص 191.
6- نهج البلاغة، الرسالة 41.
7- (م.ن)، الكتاب 53.
8- الصحيفة السجادية، الدعاء رقم 27.
9- (م.س)، الخطبة 121.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع