تحقيق: زينب صالح
كربلاءُ يومِنا هذا ما عادت مجرّدَ مجالس نحييها بالدموع
والعبرات، بل صارَت مواقفَ تواسي القلوب في لحظات الرحيل. ونظرةٌ سريعةٌ إلى بيوت
الشّهداء عند تلقّي نبأ الغياب، توحي بأنّ كربلاءَ دماءٌ تغذّي القلوب، حتّى تضخَّ
الصبر في أقسى لحظاتِ المصاب.
*من يتوكّل على الله لا يتركه
هكذا، تتنوّع المشاهد في بيوت العوائل، وتتشارك فيما بينها بأجمل ألوان التسليم
والصبر والاحتساب في أصعب الأوقات، ولسان حال كلّ أمٍّ أو أختٍ أو زوجةٍ أو أبٍ
"من يتوكّل على الله في كلّ حياته لن يتركه، ومن يعش كربلاء فكراً وقلباً تهُن عليه
جميع النوائب والتّضحيات".
"ربِّ هبني حرقة الحسين على ولده عليّ الأكبر!".
في مشهد تنحني له الكلمات. كان هذا دوماً دعاء "أم محمد جعفر"، إذ تقول: "كيف
أشعر بالإمام عليه السلام إنْ لم أواسه؟ ففراق الولد أصعب شعورٍ قد يختلج قلب
الإنسان، وهو بعض ما عاشه عليه السلام في ساعات عاشوراء المريرة."
وتتكلّم الأمّ عن عدوان تموز 2006، عندما عاد ولداها سالمين بعد نصر آب، كيف جُبِلت
فرحتها بحزنها، قائلةً بمزاح "أراكما عدتما عموديّاً وليس أفقيّاً (أي ليس حملاً
على الأكف)، فأجاب محمد جعفر داغر: "شاء الله ألّا نكون شهيدَين..".
*"يا صاحب الزمان"
وفي معارك الدّفاع المقدّس، عندما التحق الشاب العشرينيُّ بقوافل الجهاد، اتّصل بها
يوماً ليخبرها أنّ الشباب في حاجةٍ ماسّةٍ إلى الدّعاء، وقال: "ارفعي المعنويّات يا
أمي هذه الليلة" فأجابته: "لا تقلق يا بنيّ".
وجلست الأمّ في محرابها تقرأ دعاء "أهل الثغور"، وفيما هي كذلك إذْ تراءت لها صورة
ولدها شهيداً فوق الأرض، فشعرت أنّه استشهد، وبكت، لكنّها سرعان ما جفّفت دموعها
بعدما شعرت بأنّ الله ربط على فؤادها كما ربط على قلب أمّ موسى عليه السلام.
اشتدّت المواجهات بين التكفيريين ورجال الله، وأسلم "محمد جعفر يوسف داغر" الروح
شهيداً على مذبح عشق مولاته زينب عليها السلام في ليلة شهادتها، في 15 رجب.
وعند وصول خبر الشهادة إلى البيت، دخلت الأمّ الى غرفتها، وسجدت قائلةً: "يا صاحب
الزمان"، "عندها شعرتُ بسكونٍ كبير، وابتسمْت. لم أرَ في قلبي سوى سيدتي زينب
عليها السلام، تقف قرب خيمتها صابرة محتسبة. في تلك اللحظات شعرتُ بالقرب منها كما
لم أشعر من قبل".
"وفي يوم تشييعه شعرتُ أنّي يجب أن أودّعه، وأن ألقّنه بنفسي الشهادة، لكنّني
عندما رأيتُه ضاحكاً مبتسماً قلتُ له: أراكَ وصلتَ يا ولدي للّقاء بمن كنتَ تعشق في
دنياك.. هنيئا لك".
*لا آمن أحداً عليكِ خيراً من الحسين عليه السلام
تُجمع الشّهادات على أن قلب الشهيد يشعر بقرب شهادته قُبيلَ رحيله، كما يشعر بها
المقرّبون منه. لكنّ الجميع يقول إنّ الله يربط على القلوب، ويهبط عليها الصبر،
تأسّياً بمصائب عاشوراء.
فقد أصرّ محمد (21 عاماً) على إرسال خطيبته "فرح" إلى العراق، لزيارة الإمام الحسين
عليه السلام، في حين أنّه كان يرفض من قبل سفرها بمفردها دونه أو دون أحدٍ من
ذويها. وعندما سألتَهُ عن سبب ذلك أجابها: "سأكون مطمئنّاً عليكِ هناك، فلا أحد
آمنه عليكِ في غيابي خيراً من الإمام الحسين عليه السلام".
وقبيل سفرها قال لها: "أنا اخترتكِ عروساً لي في الجنّة، فالدنيا زائلةٌ ولم نُخلق
لها". عندها شعرت "فرح" بقرب الوداع، بَيد "أنّ الله ربط على قلبها وألهمها الصبر".
تقول فرح: "وفي الطريق إلى الكاظمية لزيارة الإمامين الجوادين تراءت لي في الصحراء
صورة محمد شهيداً فوق الثرى مخضّباً بدمائه، فبكيتُ وقلت لصديقتي: لقد استشهد محمد.
وعندما وصلتُ إلى المقام الشريف، قلْتُ للإمام الكاظم عليه السلام: لقد استشهد
محمد، وابتسمت".
وحين وصل خبر شهادة "السيّد محمد إبراهيم" إلى الحملة في العراق، غادرَت فرح إلى
مقام الإمام الحسين عليه السلام، حيث تذكّرت كلام خطيبها "لا آمن عليكِ أحداً خيراً
من الحسين عليه السلام"، وعَرِفَت لِمَ أصرَّ على إرسالها في ذلك الوقت لزيارة سيّد
الشهداء عليه السلام، إذ عَلم أنه سيكون لها خير مواسٍ في أصعب لحظات حياتها.
وحدّثت نفسها قائلة: "نعم أنا في كربلاء، أم المصائب والبلاء، وإلى جوار سيّدي
الحسين عليه السلام، وكلُّ مسيرتنا وشهدائنا هم على خطى شهداء نينوى". تكمل فرح:
"وعندما وصلتُ إلى المقام الشريف، شكرتُ الإمام الحسين عليه السلام، وعاتبته لأني
لم أرزق الشهادة أنا أيضاً، لكنّني عندما ودّعته وهممت بالانصراف، شعرت بسكونٍ
وطمأنينة، وكأنّ الله أنزل عليّ غيثاً من الصبر والقوة والتوكل".
تختم فرح: "لماذا يقولون إنّنا مأجورون على صبرنا؟ فكل صبرنا من الله، وكل قوتنا
من الله. نحن متمسّكون بحبلِ بالله وبأهل البيت عليهم السلام في كل مراحل حياتنا،
فهل يتركوننا في أصعب اللحظات؟!".
*مَنْ من أولادي؟
كانت تصبُّ له الزّيت لينظّف السّلاح، وتقول لوالده: "أنت وأولادك الأربعة بأسلحتكم
وأمتعتكم تحتاجون إلى باصٍ للذّهاب إلى سوريا، فسيارةٌ واحدة لا تسعكم". وعندما
يغلي قلبها تسألهم: "أتذهبون بأجمعكم في وقتٍ واحد؟!" فيأتيها الجواب: "ألم يستشهد
جميع أهل بيت السيدة زينب عليها السلام يوم عاشوراء؟"، فيبرد قلبها، وتتصبّر،
وتتابع مجريات الحرب والمواجهات بدءاً من القصير حتى اليوم، وتواسي نفسها دائماً"
لا أقول لهم: "لا تذهبوا.. بل أقول: قاتلوا حتى النفس الأخير.. إنْ لم نحرّر نحن
هذه الأرض فمن سيحرّرها..؟".
وعندما أراد ولدُها المسعفُ الذهاب في رحلته الأخيرة، قالت له: "ليس الآن وقت ذهابك
يا علي، أليس كذلك؟" فأجابها: "نعم، لكن هل ترضين أن يحتاجني الجرحى في الميدان ولا
يجدونني؟!" عندها سألته أنْ يذهب، ويؤدي واجبه الجهادي.
وفي اليوم الذي أذِن الله لـ"علي محمد" بالارتقاء شهيداً، شعرَتْ أنّ قلبها فارغٌ،
فقامت تجوب البيت وتلمس ثيابه، ثم تقلّب قنوات التلفاز علّها تسمع خبراً عن
المجاهدين، ففي البيت الذي يخرج منه كل الأبناء إلى ساحات الجهاد، تقف الأم على
نافذة الانتظار، تستشرف لحظات شهادة أحد أبنائها، حتى إذا رأت الوفودَ أمام دارها،
تسألهم: مَنْ مِن أبنائي؟ فشاء الله أن يجيبوا: "علي"، فأجابت: "هنيئاً لك
الشهادة يا ولدي، كنتَ تتمنّاها ونِلْتها".
وفي يوم تلقي خبر شهادته في الخامس والعشرين من أيار، قالت: "كان والده يتمنى أن
يرزقنا الله بشهيدٍ.. ولدي "عليّ" كان ربيع عمري وأجمل نبضات فرحي، لكنّ الصبر يهون
أمام مصائب السيدة زينب عليها السلام، وسأظلّ أربّت على أكتاف أبنائي قبيل ذهابهم
حتى لا يبقى تكفيري واحد فوق وجه الأرض".
العراق
علي
2016-10-24 14:04:36
بوركت الامهات التي انجبت هكذا رجال عانقو الشهادة