لقاء مع الجريح المجاهد محمّد عبد المجيد قانصوه (بلال)
حنان الموسويّ
حين شاركت النجوم مكانها، ظننت أنّ قاذف الـB7 الذي كنت أحتضنه انفجر. تلاشت الدنيا عن عينيّ خلال لحظات، ملكوت السماء بكلّه حضر، يا فرحتي! طلبتني الشهادة! تلوت بضع كلمات باطمئنان: "أشهد أن لا إله إلّا الله"، وأسلمت النفس، أغمضت عينَيّ وابتسمت. مرّت الثواني ببطء، عدت إلى رشدي، وعلى ثغري توكّأَت تساؤلات: تُرى هل هناك تعاقبٌ لليلٍ ونهار في البرزخ؟ ما هذا النور كلّه الذي يملأ المكان ويكسر حاجز الظلمة؟
صوت قريبي المصاب بجانبي خلق اليقين داخلي أنّي ما زلت أرزح تحت أنياب الدنيا، جذبني النور مجدّداً، أمعنت النظر، إنّه موقع الدبشة الصهيونيّ يسطع بالإضاءة ليكشف سبل المجاهدين. تشريكة الألغام الخاصّة بالآليّات كانت تذكرة المضيّ من عالم الجهاد الممهور بالعرق والكدّ إلى عالم الشهادة الممهور بالدم، قدمي التي بُترت كانت هي الجواز، وأمّا عن نزيفٍ أذهلني عن الإحساس بقدمي الأخرى، فلا يسعني البوح سوى بأنّ الأحمر جميلٌ جدّاً، خصوصاً حين تقدّمه بفرح.
•الطريق البيضاء
بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، ببركة الإمام الخمينيّ العظيم قدس سره، بدأت النهضة الإسلاميّة في لبنان. عندما تأسّس "حزب الله" عام 1982م، خضعتُ لدورة عسكريّة، وانطلقت بعدها في العمل العسكريّ. باشرت عملي الجهاديّ في الجنوب عام 1985م، إلى جانب استكمال دراستي الجامعيّة في اختصاص الميكانيك. كان علينا مراقبة ورصد تحركّات العدوّ الصهيونيّ في محور "كفررمان". احتاج المجاهدون في "كفرصير" للمؤازرة فانطلقنا لمساعدتهم. مشينا في الطريق البيضاء، اجتازها رفاقي، وحين خطوت دوّى الانفجار، ورحت أذوب.
قام المجاهدون بسحبي، وصلت بالإسعاف إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة، خضعت فيها لجراحة كُلّلت بالنجاح، بعدها ماج الفقد بي، وغبت عن الوعي لأربعة أشهر متتالية. الوجع القاتل لم يسمح لي باستيعاب ما عشت، خضعت لثماني جراحات لترميم أذني، ذاكرتي الهشّة احتفظت بصورٍ لشراييني التي كانت بارزة، كما أنّ أنبوب نقل الدم الذي بقي ردحاً من الزمن نابتاً في وريدي، ما زال حاضراً في البال.
•خدمة الجرحى شرفٌ لي
إصابتي لم تُعقني مطلقاً. أهمّ طباعي أنّي أعاند الظروف وأتعالى عليها. لم أستسلم مقدار لحظة، فالمعوّق معوّق العقل وليس الجسد، وطالما أهداني ربّي عقلاً راجحاً، فكلّي إيمانٌ بأنّ رسالتي لم تنتهِ؛ لذلك عملت في مؤسّسة الشهيد عام 1988م. وحين صار لمؤسّسة الجرحى كيانٌ قائمٌ بذاته، تسلّمت عام 1991م الملف الاجتماعيّ للجرحى، أستقبلهم في المستشفيات، وأتابع أمورهم كافّة. ولأنّي منهم، وجدت سهولة في التعاطي معهم، وكنت مقرّباً إليهم. تسلّمت إدارة منطقة بيروت لشؤون الجرحى عام 1994م. كنت وسأبقى في خدمة هذه الشريحة من المقاومين الذين قدّموا كلّ ما يملكون، وأهدونا الانتصار، وما وقفوا يوماً على أطلال ما سُلِبوه في ميدان الجهاد. عقيدتهم أنّ ما كان لله ينمو، وتلك الأعضاء التي فُقِدت في الحرب إنّما سبقتهم إلى الجنّة، ويكفيهم الفخر أنّ الانتماء إلى خطّ الحقّ الذي يتمثّل بحزب الله، يوصل إلى الفردوس الأعلى. جراحي في هذا النهج أعتبرها مسؤوليّة، وخدمة الجرحى شرف لي.
•بطولة وعزيمة
بعد حرقةٍ راقية الأوجاع، قسم لي الله بلطفه كلَّ الخير، تزوّجت ورُزِقت بثلاثة شبّان هم روحي التي بين جنبيّ. أمارس العيش ككلّ الناس، أحبّ الرياضة كثيراً، خصوصاً كرة الطاولة، وكنت عضواً في اللجنة البارالمبيّة، وقد شاركت في العديد من البطولات، وفزت ببطولة لفئة المعوّقين، كما وأعشق السباحة. أشكر الله أنّ جراحي ستُكتب في صحيفة أعمالي، وستشفع لي يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم.
•فارس الحجاز
قبل توجّهي لأداء فريضة الحجّ بأشهر، رأيت في عالم الرؤيا أنّي أطوف حول الكعبة وألبّي. زُرِع اليقين داخلي أنّي سأُرزق الحجّ، قدّمت أوراقي وكان اسمي من بين الأسماء التي كُتِب لها ذلك. زهد الأوضاع الماديّة أرهقني، فحملت العزم في جعبتي والتسليم، كنت وكان الله معي، صدقته النيّة وانطلقت. وضع الحملة المزري دفع أفرادها للانتشار حين طرأ عطلٌ على الباص بعد وصولنا، وكلٌّ مشى وحده. اقترن الذكر بأنفاسي. كنت وِتراً لا صديق لي سوى عكّازي، ولكثرة ما التحم بي أكل بعض جلدي، فازداد في جنب الحبيب صبري، وفي بئر رأسي نداء: "يا أيّها العزيز، قد ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الأنبياء: 83)". وفي لحظة ضاقت الدنيا في عينيّ، ذكرت فارس الحجاز، وغيم مقلتَيّ يسحُّ ما اكتنز من دمع. تبادر إلى ذهني أن أقترب من الكعبة أثناء صلاة الحجيج، قوّة عجيبة سرت في مفاصلي، أدّيت الصلاة وبدأ الطواف، انتهى الأوّل فالثاني... إلى السابع، سبحانك من معين، لقد أدّيت طوافي! ذاك العزم السماويّ دفع بي نحو الصفا والمروة، حان وقت السعي، نظرت وقدرتي المنكسِرة تحدو بي، ناجيته بأنينٍ حزين: "ها إنّي أُحرِمُ في ميقاتِ الدَّمعِ، وأذرفُ سجدةَ شكرٍ في محرابِ يديك، أفرشُ صحرائي الجدباءَ حقولاً من عشبِ التوبةِ في كفَّيْكْ، مؤتزراً كلَّ حنينِ القلبِ أتيتُكَ أسعى، بين الحُلُمِ وبين الحِلْمِ، أتيتُ لأقرعَ بابَ العفوِ، وأشربَ نورَكَ من ميزابِ الرحمةِ يا الله، قد جئتك من ركنِ يقيني، من مَرْمَر هذا القلبِ ألبّي، يا كلَّ القدرةِ فأعنّي..". وإذ بشابّ قمحيّ البشرة، في خدّه خالٌ له من الروعة كلّ القِسمة، وقف بجانبي مع كرسيٍّ متحرّك لا يشبه الكراسي الموزّعة على الحمّالين.. أومأ لي بالجلوس، فأخبرته أنّ لا مال لديّ، أجابني: "أعرف".. أردفت قائلاً: إنّ سعينا يبدأ من حدود الصخرة، هزّ رأسه بالقبول وبدأ السعي بي. رافق نبضي حتّى الشوط السابع، وحين هممت بالقيام لأشكره عند انتهائنا، اختفى وكرسيَّه خلال لحظات، بكيت لغفلتي، فحين أسلمت أمري لخالقي بصدق، كان المدد الغيبيّ حاضراً لتوّه.
•ذكريات خالدة
من الذكريات المخفوقة في لون الصبا، ما هو عصيٌّ على النسيان. أذكر حين مكثت في الجنوب أني مُنحتُ نعمة الاهتمام بوالدي، مرضه الخبيث آذاني، السرطان الذي فتك به لم يكن سبب تعلّقي العظيم بروحه، فما كُتِب لنا افتراقٌ دون وداع، وإن كنّا في المشفى عينه وتفصل بيننا طبقة واحدة، فالغيبوبة التي دخلتُها حالت دون لقائه قبل رحيله إلى المستقرّ الأبديّ. أمّا رحيق الذكريات، فيعبق حين تلوح صورة الإمام الخمينيّ قدس سره في خافقي، أذكر زيارتنا له في إيران، حيث أكرمنا الله بالتبرّك برؤيته، أعيش حضوري بين يديه كلّ لحظة، ويسكُنني النور المتألّق في وجهه. انتابني الشعور عينه عند لقائي بالسيّد الإمام الخامنئيّ دام ظله سنة 1997م، عندما كنت في خدمة وفود الجرحى في إيران، كانت فرحة عارمة أن دخلنا منزله وصلّينا بإمامته، تلك النزهة في وجهه الحسن كحلمٍ ورديّ، وذاك الفيض النورانيّ لا يبارحني، يشبه مرور عطرٍ فاخرٍ شديد التباهي لا يتيح نفسه إلّا للحظات، ينسيك كلّ ما حولك، وينتشلك من عالم المادة إلى ملكوت الروح.
•أمنيةٌ ورجاء
لأنّنا نُسنِد الأمس إلى الغد، وكنّا في سوح المقاومة بملء عقيدتنا، أقول لإخواني الذين وهبهم الله وسام الجراح: "دوركم يا أحبّائي لم ينتهِ بعد، كونوا القدوة الحسنة المؤثّرة في الناس، اخدموهم قدر استطاعتكم، تلك النظرة التي حبَوْكم بها على أنّكم ملائكة قدّمتم أجسادكم على مذبح التضحية؛ لأجل أن يحيا الجمعُ الأكبر بسلام، يجب أن تستثمروها لإثبات عقيدة حزب الله ورسالته أكثر. ولأنّي منكم لن يُنكرَني صوتي، نحن جنود وقفنا على باب الموت، سنكون مدرسةً في الصبر والتحمّل والعطاء.. علينا أن نُظهر أخلاق أهل البيت عليهم السلام، وأن ننبذ العصبيّة واليأس.
وأنا كفردٍ منكم أستلذّ بدقّة جُرحي وأتحدّاه، لم يركعني يوماً، بل طوّعته في سبيل راحتكم قربةً لله. أقول لكم: إنّ مؤسسة الجرحى معكم ومحيطةٌ بكم، وجاهزة لتسهيل عوائق حياتكم. الجؤوا إلى الله، وتقرّبوا منه بالدعاء والصلاة، خصوصاً في أوّل وقتها، وإحياء المناسبات وتحديداً في محرّم،
فإنّ جراحكم تحمل بعضاً من مشاهد عاشوراء، أليس العبّاس ابن أمير المؤمنين عليهما السلام قدوتنا؟ هل أضعفه سيل الإصابات عن تأدية واجب الدفاع عن إمامه والخيام؟ كذلك نحن، علينا أن نستمّر".