نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: هلا ضاهر.
محلّ الولادة وتاريخها: ميفدون 12/10/1985م.
الوضع الاجتماعيّ: متأهّل وله ولدان.
رقم السجل: 963.
مكان الاستشهاد وتاريخه: تلّ مندو 14/4/2013م.
انقضى خمسة وأربعون يوماً، ولم يبقَ من صبر الانتظار إلّا جذوة صغيرة تحت رماد الأمل. عاد مَن عاد حيّاً، ومنهم من قضى نحبه. الغبارُ لم ينجلِ بعد عن أرض الجنوب، وعيونٌ شاخصة ناحية الباب عساه يطلُّ ذلك الشابُّ الذي شابَهَ عمَّه "يوسف" جمالاً وخلقاً ومنطقاً وجهاداً.
•الحلم المُقلِق
كان والده يراوده دوماً حلم رآه قبل أن يولد عبّاس، وهو أنّ نوراً سطع في السماء فرأى حديقة غنّاء يجلس فيها طفل، وسمع أنّ هذا الطفل له، وسيُحتسب عند الله شهيداً.
ولكنّ قلبه سكن لمّا سمع طرقات عبّاس على الباب، عاد حاملاً معه تعب خمسة وأربعين يوماً من الحرب في محور عيناثا وبنت جبيل ومارون الراس. لقد عبر عبّاس حرب تمّوز 2006م ببأس الشجعان، وأخذ منها الكثير من العبر والدروس، وأكثر من خطر في باله في تلك الأيّام، عمّه الشهيد "يوسف"، الذي استشهد في مواجهات مع العدوّ الإسرائيليّ في محيط موقع "عرمتى" عام 1999م، وكان يبلغ عبّاس أربعة عشر عاماً آنذاك، فتأثّر كثيراً باستشهاده.
•العمّ القدوة والدليل
أدرك يومها عبّاس، أنّ عمّه وضع أمامه نموذجاً عاديّاً للقدر الذي يمكن أن يصير عليه الإنسان؛ أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون. ولا يمكن نيل هذه المرتبة إلّا بجهد وتعب.
اختزن عبّاس كلّ قصص عمّه والذكريات في قلبه، وبنى علاقة روحيّة معه، فكأنّه لم يفارقه قطّ، وكان ملجأه الوحيد حينما تضيق به هذه الدنيا، فاشتغل على نفسه جيّداً على الصعيدَين الروحيّ والجسديّ، محضّراً نفسه لمواجهة ما في زمنٍ ما.
•القائد المحبّب
هو منذ صغره ابن بيئة المقاومة. تدرّج في الكشّافة حتّى صار قائداً، وليس أيّ قائد، فعبّاس أسّس علاقة وطيدة مع أشباله وأهلهم، وكان يتابع شؤونهم الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة حتّى بعد العودة إلى منازلهم، فتعلّق به الأشبال كثيراً، فهو كان يبادر للمشي نحوهم فاتحاً ذراعَيه مبتسماً، مسلّماً عليهم ومقبّلاً لهم جميعاً، حنوناً كأب، ومتفهّماً كصديق.
•شخصيّة نموذجيّة
خلال خضوعه لدورة المقاتل، لفت الأنظار إليه بثقته العالية بنفسه، ووضوح الرؤية والوعي، ولكنّ أكثر ما أثّر برفيق له هو الإيثار الجميل الذي تعامل به مع الآخرين، فلم يكد هذا الشاب أن يبدي إعجابه بثياب جديدة اشتراها عبّاس لنفسه، حتّى قدّمها له، فرفضها الأخير، وطلب استعارتها لزيارة بيت مخطوبته التي يزورها في اللباس نفسه دوماً، فوافق عبّاس، وتبادلا الثياب، ولكن لمّا رجع رفيقه، رفض أن يستردّ منه ثيابه.
كان خدوماً ومحبّاً، كتوماً سرّه طيّ قلبه، وإن كان يسعى في تخفيف هموم الآخرين وخدمتهم، فإنّ ما يعتلج في روحه يبقى له وحده، ولم تخلُ حياته من منعطفات ومطبّات قاسية في بعض الأحيان، فتعامل معها بتسليم، وتعلّم منها الدروس، فكلّ صعب وهيّن يمرّ عليه، يضعه بين دفّتَي كتاب أيّامه ليستفيد منه ويفيد غيره، وكثيراً ما ساعد رفاقاً له على تجاوز مشاكلهم وحلّها، ولم يكن عبثيّاً في طرح أفكاره، بل كان منظمّاً واضحاً يربط كلّ شيء بحديث أو رواية عن أهل البيت عليهم السلام .
•السبّاق للإبحار
التحق عباس رسميّاً بصفوف المجاهدين وهو لا يزال طريّ العود، وتحوّلت أسلحة الطفولة إلى سلاح حقيقيّ، ولم تمضِ فترة طويلة حتّى شُنّ عدوان تمّوز، فعاش عبّاس كلّ مشاهد الحرب؛ الحبّ والإيثار، الضحك والبكاء، الشجاعة والاستبسال، الوفاء لرفاق الدرب، الذين استشهد أحدهم معه، فدفنه عبّاس وديعة، ولمّا انتهت الحرب، سحب جثمانه وحمله على كتفه في طريق العودة.
وما بين حرب تمّوز وبدء الدفاع عن المقدّسات، سنوات اغتنمها لتطوير قدراته القتاليّة، والاهتمام بعائلته الصغيرة التي لم يهمل لحظة للبقاء معها. وخلال تلك السنوات، شارك رفيق دربه الشهيد علي جشّي مواقفه العصيبة في معركته مع مرض عضال، وكم خشي قلبه أن يُهزم هذا البطل الذي أذلّ الصهاينة أمام هذا المرض، ولكن مع بدء الحرب في سوريا، حمل كلّ من نجا في حرب تمّوز زورقه الخاصّ، وأبحر إلى هناك عساهُ يبحر بلا عودة، وهما كانا معاً من السبّاقين في الإبحار.
•"ما تطوّل عليّي أنا ناطرك"
أمام مقام السيّدة سكينة عليها السلام استشهد عليّ، كان ذلك خبراً مؤلماً ومفرحاً في آن، يومها، طلب عبّاس الإذن بالذهاب لوداع جثمان صديقه في الحرم الزينبيّ، فقضى ليلته هناك بالقرب منه يحادثه ويناجيه، حتّى انبلج الفجر على شفتَيه تتمتمان: "ما تطوِّل عليّي بحقّ الزهراء أنا ناطرك.."!
ثلاثة أيّام وعبّاس يغتسل غسل الشهادة، ويدفع صدقة الرحيل، كان ذلك لافتاً، خصوصاً وأنّه حاضر في المعارك منذ أيّام الدفاع الأولى، ولكن اليقين بدا واضحاً في عينيَه، وأخبر رفاقه أنّه رأى عمّه الشهيد "يوسف" في المنام قائلاً له: "أنت سوف تأتي وأنا بانتظارك".
•الليلة الكربلائيّة
لقد قضى عبّاس أيّاماً وليالي يقطع المسافات لإيصال السلاح والعتاد، ولكنّ مسافة تلك الطريق كانت مختلفة، فقد طواها بقلبه، كانت تلك هي الليلة الثالثة من ليالي الانقطاع عن الدنيا. وإن كانت مهمّته تنتهي بعد تسليم الأغراض، لكنّه لبّى نداء تلك الليلة الكربلائيّة من دون أن يُدعى، وأصرّ على البقاء لمؤازرة المجاهدين بعد أن احتدمت المعركة، وأخبره أحد المجاهدين أنّها تصعب أكثر فأكثر، وقد سقط العديد من الجرحى وارتقى عدد من الشهداء، فترك كلّ شيء ليبقى.
بهدوء قلبه تقدّم نحو السواتر، كان الرصاص يتفجّر حوله، وهو لا يطلق رصاصة إلّا وأردى بها تكفيريّاً، وقد أحصى له رفاقه قتل 28 واحداً منهم، قبل أن يطلق قنّاص رصاصته فيرديه شهيداً.
•في جوار عمّه يوسف
كان والده يغفو عندما رأى في منامه أنّ هاتفاً ناداه ليفسح في المجال لضريح في بيته، واستفاق على رنّة هاتف، رنّة انقبض لها قلب الأمّ التي ودّعها عبّاس على غير عادة منه، إذ رجع ثلاث مرّات ليضمّها ويشكرها على جزيل ما قدّمته له طوال حياته.
نزل خبر استشهاده برداً وسلاماً على قلب أهله وعائلته وطِفلَيه، فهو قد استشهد في معركة بطوليّة، وأبلى بلاءً حسناً، والتقى بمن أنس به وهو ليس في جواره، عمّه "يوسف"، فكيف بنفسه إذا ما التقى به؟!