الشيخ مهدي طحيني
أن تمسك المعول وتهمس في أذن أرضك باسم الله، وحين ترويها وتشتمّ رائحة التراب الأحمر الخصب يحتضن بذور الخير، ومع كلّ إشراقة شمس وأذان بموسمٍ آتٍ من عطاء الأرض، أنت تعلم بكلّ حواسّك، أنّك بذلك تبدأ الحياة وتستجدي من الله فقط فيضاً خاصّاً. في تربة حبّ وودّ بين يدٍ خضراء وأرضٍ بارّة، حكى طالب علم للمجلّة تجربته مع الأرض...
•البداية من الأرض
بدأ المشروع من قطعة أرض طيّبة وغنيّة لقريب لي، لطالما راودتني فكرة زراعتها بسبب خصوبتها، وعندما قرّرت لم أتردّد بالاتّصال به وعرض الفكرة عليه. تلقّى الفكرة بكلّ سرور وإعجاب، وأثنى على المبادرة، وكان مستعدّاً لبذل كلّ ما نحتاجه للزراعة، فاكتفيت منه بتقديم الأرض. وبعد هذه الخطوة، لحقتها خطوات مماثلة، فبعض الجيران لديهم أراضٍ، لكنّهم لا يملكون الخبرة الكافية لزراعتها، فقمت بالمبادرة نفسها، وتلقّيت أيضاً القبول والترحيب.
وهكذا كانت البداية...
•حُبٌّ للأرض والتراب
عمارة الأرض بكلّ أنواعها وأشكالها مطلبٌ إلهيّ يدخل في صميم المشروع الإلهيّ الكبير؛ أي الخلافة الإنسانيّة. فكلّ ما يدخل في هذا العنوان، يُعدُّ السعي نحوه شكلاً من أشكال العبوديّة لله تعالى، وتناغماً وانسجاماً مع الفطرة السليمة. من هذا المنطلق، ولد حبُّ الأرض والتراب والماء والهواء والنبات وكلّ دابّة على الأرض.
وإنّ غياب هذه المفاهيم، يشكّل تحدّياً لإعادة توجيه الوعي الجماعيّ إلى طريقه الصحيح، ما استدعى سلوكاً عمليّاً أعمق في التأثير من كلّ قول، مضافاً إلى تحسّس كنه الحرب الجديدة على أهل الحقّ، وهي الحرب الاقتصاديّة، وسلاحها سنبلة القمح وحبّات التراب. جميعها عوامل أدّت إلى التوجّه للزراعة والاهتمام بالأرض بالقدر المستطاع، وضمن الإمكانات المتوفّرة.
•الزراعة.. إحياء للأرض
طال المشروع كلّ قطعة أرض يمكن الاستفادة منها ضمن الإمكانات المتوفّرة، ومهما تطلّب ذلك من جهد ومتابعة، عبر التوجّه إلى الأراضي في قريتي الجنوبيّة، والتي لا يستفيد منها أصحابها، وعرض ضمان الأرض وزراعتها. والعرف القائم بين المزارعين، أن يأخذ مالك الأرض نسبة من المحصول وهي الربع، وذلك تخفيفاً على المزارع الذي سيتحمّل تكاليف الحرث والبذر والحصاد، مع بقاء احتمال وقوع الحوادث الطبيعيّة المختلفة من تقلّب غير اعتياديّ في الطقس، مثل الأمطار أو الحرارة أو البرودة، ما يمكن أن يؤدّي إلى إضعاف الإنتاج. ثمّ إنّ المالك يشعر أكثر بالانتماء إلى الأرض حين يأكل ممّا أنتجته.
أصحاب الأراضي كانوا إيجابيّين بالكامل، وتعاونوا إلى أقصى الحدود، وقدّموا المساعدات، وبموافقتهم تلك سنحت لي الكثير من الفرص في الآتي من الأيّام.
•المحاصيل الزراعيّة في المشروع
المنتوجات الزراعيّة التي تدخل في الأمن الغذائيّ للمجتمع، وهي الحبوب على أنواعها بشكلٍ أساسيّ، كانت محطّ اهتمامي الأكبر، حاولتُ الاهتمام بها؛ لأنّها أكثر المحاصيل أهميّة في حياتنا كلبنانيّين وأبناء أرض، وهي مؤونة أساسيّة لكلّ منزل، ويسهل تخزينها، وهي متوفّرة في كلّ المواسم، كالقمح والعدس والشعير والحمّص، فقسّمت الأراضي حسبما يناسبها من كلّ صنف.
•أعمال الزراعة: تحدّيات وفرص
تابعتُ أعمال الزراعة بمساعدة بعض الإخوة، وبإشراف وبإرشادات المختصّين من مزارعين لديهم خبرة وأكاديميّين، ذلك أنّ لكلّ قطعة أرض طريقتها الخاصّة بالاهتمام بها، ونوعاً خاصّاً من المزروعات.
من المشاكل التي واجهتنا عدم توفّر الحبوب الصالحة للزراعة بالكميّات المطلوبة والأسعار المناسبة، فضلاً عن عدم توفّر المياه باليسر المطلوب، وصعوبة استصلاح بعض الأراضي؛ لذلك كان الإنتاج محدوداً بسبب التنوّع بين أصناف المزروعات، ما أدّى إلى كميّات قليلة من كلّ صنف.
أمّا التسويق فكان ميسّراً، خصوصاً أنّ المنتج بلديّ معلوم الحسب والنسب، فلم يحتج إلى أكثر من إعلان عبر مواقع وسائل التواصل الاجتماعيّ، لا سيّما وأنّ الناس يرغبون في المنتج البلديّ المعلوم المنشأ، ويفضّلونه على التجاريّ المستورد بطبيعة الحال.
•بين الأرض والعمل والدراسة
صحيح أنّ الزراعة، واستصلاح أرضٍ لم تزرع منذ زمن، والعناية بها، والريّ، والحصاد، عمل شاقّ يتطلّب جهداً، لكنّه ممتع وغنيّ معنويّاً في الوقت عينه، وهو في حدّ ذاته يشكّل دافعاً للهمّة والنشاط. والمزارع يتلمّس بين يديه توفيقات الله وبركاته خلال عمله، لأنّه يتعامل مع خلق الله. وبالنسبة إلى الوقت، فقليلٌ من التنظيم كان كفيلاً بأن أوفّق بين عمل الأرض وعملي الخاصّ والدراسة.
تحضرني لحظات، حيث كنت أتابع أحياناً الدرس عبر الهاتف مع الأستاذ في الحوزة مباشرةً، وأنا أعمل في الأرض في الوقت نفسه، ولم يمنعني ذلك عن متابعة الدرس.
•الأمن الغذائيّ حصان المجتمع
من أهمّ مظاهر القوّة التي يجب أن نتهيّأ لها لمواجهة أعداء الإسلام تأمين حاجات المجتمع، وتحديداً العمل على بناء الأمن الغذائيّ بشكلٍ خاصّ، وبناء قوّة اقتصاديّة بشكلٍ عامّ.
وعليه، فإنّ من التوفيقات الإلهيّة العمل على استثمار كلّ الطاقات التي من شأنها أن تصبّ في هذا العنوان. ومجتمعنا بحمد الله يسير في هذا الاتّجاه، خصوصاً بعد التوجيهات المباركة للأمين العام سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، عندما أعلن عن بداية الجهاد الزراعيّ والصناعيّ، إذ تفاعل الناس مع خطابه بشكلٍ إيجابيّ، فزاد من بدأ بالزراعة إصراراً على إكمال الطريق، وسلّط الضوء على أهميّة الزراعة لمن لا يرى فيها تلك الأهميّة، ونبّه إلى ضرورة إحيائها من جديد.
فبالعمل المستمر والكدّ والصبر في هذا المضمار، سنصل إلى نتائج حميدة إن شاء الله تعالى، ومجتمعنا لديه كلّ الإمكانات النفسيّة والروحيّة والماديّة اللازمة لتحقيق الأهداف المنشودة.