مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

شهيد الدفاع عن المقدّسات محمّد عدنان بيز (سراج)

نسرين إدريس قازان


اسم الأمّ: عبير أسعد.
محلّ الولادة وتاريخها: مشغرة 17/8/1992م.
الوضع الاجتماعيّ: عازب.
رقم السجل: 148.
مكان الاستشهاد وتاريخه: تدمر 12/5/2018م.


كمن يحمل شمعة في نفقٍ مظلم، حمل بصيرة تجذبها أنوار عشق إلهيّة.. حتّى صار شمعة أنارت ظلمات الحياة، وذابت كي نبصر نور الفناء واليقين في الحبّ، ذلك اليقينُ الذي عاش عمره يبحثُ عن معانيه، وتفكّر طويلاً فيه، ولم يفارقه طرفة عين حتّى لامسه وأدركه، حينما نزف دمه فوق رمال "تدمر".. هناك، حيث قال: "من أراد أن يرى كربلاء، فليذهب إلى تدمر"، ولا يرى كربلاء إلّا من وصل إلى الله.

ثمّة ما يبحثُ عنه الإنسان في دهاليز الروح، ويخوض في لجّة ظلامها بحثاً عن الحقّ، ومحمّد طوال عمره بحث عن سرٍّ واحد: كيف استطاع الاستشهاديّ علي أشمر ابن التسعة عشر عاماً أن يفجّر جسده بقافلة إسرائيليّة؟ أيّ يقين حَمَلَتْهُ تلك التحيّة التي أدّاها قبل الاستشهاد؟! كم استغرق ليصل إلى هذا اليقين؟! بحثٌ أوصل محمّداً ليغترف من قصص الشهداء وسِيَر حياتهم، زيتَ قنديل فضوله، ليعجل إلى ربّه فيرضى.

* ذكيّ ومهذّب
هي سلسلة مترابطة من البحث والأحداث، تمرُّ سريعاً في خاطر أهله والأحبّة، تترك الكثير من علامات الاستفهام التي لم تُفكّ رموزها كلّها بعد. لم يكن محمّد كغيره من الصبية في طفولته، أو في شبابه، فهو كان طفلاً مفرط الحركة وحيويّاً، ذكيّاً ومهذبّاً ومجتهداً، ولديه الكثير من الأفكار الخلّاقة، وروح جميلة، وكان يُجيب بدقّة وثقة عالية عن كلّ الأسئلة التي تطرح عليه، وهو بعمر الخامسة!

حفلت تلك الشخصيّة الحيويّة بالكثير من المشاهد المؤنسة؛ فتارةً يبني محمّد تلّاً من الرمال ليتسلّقه ويزرع عليه رايته الصفراء صارخاً: "لبّيك يا نصر الله"، وتارةً أخرى يحاكي نموذجه الخاصّ السيّد حسن نصر الله، فيجمع الأطفال ويضع أمامه العديد من ملاقط الغسيل كمكبّرات للصوت لقنوات مختلفة، ثمّ ينتقل ليختم حديثه بلطميّة حسينيّة.

* مشاعر فيّاضة
انتسب محمّد باكراً إلى الكشّافة، وكان كالمحرّك بين أبناء جيله، وإذا كان حيويّاً أكثر من اللازم أحياناً لمن هم أكبر منه سنّاً، غير أنّ توافقه القلبيّ مع أقرانه كان لافتاً، فقد أَوْلى عنايةً خاصّةً بالمشاعر، فلا يكاد يصدّق أحد أنّ هذا الفتى يحمل هذا الكمّ من المشاعر الرقيقة التي يغدق بها على من حوله.
ففي إحدى الدورات العسكريّة، وقع الطعام من أحد الإخوة فوق التراب، فسارع محمّد إلى مساعدته وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والتخفيف عنه بما يمكن من كلام، ولكنّ الغريب أنّهما لمّا وصلا إلى الخيمة، بادر محمّد إلى تناول ذلك الطعام غير عابئ بحبيبات التراب التي علقت فيه، مبتسماً في وجه الأخ ملتذّاً بالطعم.

* ما السرّ فيه؟
ما الذي تغيّر في محمّد؟ أو ما الذي غيّره في شبابه؟ لا أحد يعلم! وإذا ما سأله عن سرّ تبدّل أحواله وتحوّله إلى شابٍ هادئ قليل الكلام رصين الطلّة، ذي هيبة ووقار، كان يكتفي بابتسامة مكلّلة بالحياء ردّاً.
كان لدى محمّد خيارٌ للسفر والعمل في الخارج، ولكنّه ما أن أنهى المرحلة الثانويّة، حتّى التحق بالمقاومة، بناءً على اتّفاق عقده مع والدته لاستبعاد فكرة السفر. بدأ العمل في صفوف المقاومة بالتوازي مع دراسته الجامعيّة في اختصاص المحاسبة وإدارة الأعمال، ولم يكتفِ بذلك، بل التحق أيضاً بصفوف الدراسة الدينيّة. فمحمّد شاب مجاهد، أدرك "أنّ المعركة الحقيقيّة مع العدوّ تبدأ قبل العتاد مع عدّة روحيّة عالية وقلب قويّ، وأنّ ليس الرجال كلّهم يملكون قلباً قويّاً لمواجهة العدوّ وقتاله في المعارك"، حسب تعبيره.

* الوقت كالسيف
من دون أن يؤثّر أيّ التزام على الآخر، وخصوصاً أثناء وجوده في المنزل بالقرب من والديه وإخوته، استغلّ محمّد ساعات أيّامه بما هو مفيد ومثمر؛ فكان كثير المطالعة، شغوفاً بالمعرفة، سعى لبناء رؤيةٍ ثقافيّة وسياسيّة واضحة، فلا يخوض نقاشاً ما لم تكن معلوماته حوله وافية كافية، ما أكسبه عمقاً برؤية الأمور ومعرفة الأشخاص، فسبق بوعيه سنّه وأكسبه ذلك ثقة واحترام مَن حوله، وآمن بالتوكّل على نفسه بعد الله، فلا لذّة لعمل ما لم تبذل الروح ما في وسعها لنيله، وقد أوصى إخوته بذلك: "اعتادوا أن تعتمدوا على أنفسكم، وأن تسعوا لتحصيل ما تريدون بأنفسكم دون طلبه من أحد".

* كالبدر باكتمال صفاته
أن يكون محمّد مجاهداً في المقاومة ومبادراً للالتحاق بصفوف المجاهدين في سوريا، ليس بالأمر المستغرب، فهو ابن البيئة المقاومة وابن شقيق الشهيد القائد علي بيز (أبو حسن بلال)، أحد أبرز مؤسّسي وحدة "الرضا" في سوريا، وأحد التلامذة المقرّبين منه، ولم يقصّر محمّد يوماً في أن ينهل من حياة عمّه ما استطاع إليه سبيلاً، ولكن وعلى الرغم من تأثّره الكبير بعمّه، وبشخصيّات جهاديّة عدّة، فقد تفرّد في بناء شخصيّته، وكان من ينظر إليه، يجد نفسه أمام شاب يشبه البدر باكتمال صفاته.

* هديّة لعمّه
بعد سنوات من الجهاد في مناطق عدّة من سوريا، حطّ رحاله في "تدمر"، التي تركت في نفسه أيّما أثر؛ فهناك، الطعام، والماء، والأنفاس ممزوجة بطعم الغبار، وكانت رحلته الأخيرة إليها قريبة من الذكرى السنويّة لاستشهاد عمّه، وقد سأل ابن عمّه عمّا يمكن أن يقدّمه لعمّه في ذكراه، وربّما لم يجد أفضل من اللقاء في ذلك اليوم.
كانت أمّه محتارة بحالها، فقد أثقل الهمّ قلبها وقلب مَن معها، وكسا الحزن وجههم، خصوصاً وأنّ تواصلهم مع محمّد لم ينقطع، بل أرسلوا له صورهم قبل أن يصلوا القرية، ولكنّ قلب الأم أصدق إنباءً من الكتب، وكأنّها أدركت رحيل ولدها لحظة انفصال روحه عن جسده.

* الحلم الأجمل
"إنّنا مكلّفون بالعمل ضمن اختصاصاتنا الجامعيّة في حالة السلم، لنصبّ علمنا في خدمة هذا الخطّ.. ليتني أستطيع أن أبقى دوماً على الجبهات وخلف السواتر، ذلك هو الحلم الأجمل".

إنّه عبور سريع، اكتشف فيه محمّد كلّ ما خفي عنه، وكأنّ السماءَ أزاحت حجبها عن عينيه فحلّق سريعاً. لم تنتهِ حكاية محمّد، فقد نال شهادة الماجستير بعد استشهاده بأسبوع، ولا يزال طيفه في المدرّجات بين الرفاق، في المسجد وقت الصلاة، وعند كلّ دمعة واختناق، له ذكر لا يُنسى، فهو "سراج" ليل عسى صبحه قريب.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع