الجريح حسين الحاج حسن (أسامة)
حنان الموسوي
كان الخطر يُحدق بنا من كلّ جانب. وحش الصقيع يقضم أطرافنا قضمة قضمة، بينما السماء كانت مزدانة بنجومها ونحن في طريق الموت نخطوه قبالة أعين الإسرائيليّين المتمترسين في مواقعهم. كان هدفنا الوصول إلى موقع "لوسي"، وكان علينا اجتياز النهر لنبلغه. كنّا نحيك الظلام ستاراً يحمينا؛ لأنّ أجهزة الإنذار والمراقبة ما كانت لتغفل عنّا.
* المدد الغيبيّ
ثوانٍ قليلةٌ مرّت وانتشر الضباب، ما عدنا نبصر الطريق أمامنا، وها هي ندف الثلج تتساقط علينا فتسرق ما تبقّى من دفء أجسادنا، تغطّينا بوشاحٍ أبيض طاهر، وتحجبنا عن عيون حاقدة تروم بنا شرّاً.
- "ثلج!! كيف ذلك والسماء قبل قليل كانت مضاءة بالنجوم؟!".
- "هذه ليست المرّة الأولى التي يتجلّى فيها المدد الغيبيّ".
صفعات الماء البارد تحت جُنح الضباب قد خدّرت أقدامنا، ما عاد الدم يسري فيها، جمُدَ كما حال كلّ شيء حولنا، حتّى الدابّة التي كان المجاهدون يستعينون بها لنقل المتفجّرات، بعد أن حمّلوها قرابة 400 كلغ من المتفجّرات لنسف الجسر الذي يربط بين منطقتَي "جزّين" و"مرجعيون" في البقاع الغربيّ، ما كان باستطاعتها التقدّم، فتقاسموا تلك الكميّة فيما بينهم وأوصلوها إلى جسر الدلّافة بصعوبة بالغة.
* تمّت العمليّة بنجاح
وصلنا إلى بلدة "زلّايا" في البقاع الغربيّ. كان علينا دراسة المنطقة ورصدها قبل تنفيذ المهمّة. وفي الوقت المناسب انطلقنا. تحت عباءة الضباب ليلاً عبرنا النهر وتخطّينا موقع "لوسي"، هدفنا الوصول إلى موقع "الأحمديّة" والتصدّي لحاميته لتغطية المجاهدين الذين سيستهدفون موقع "لوسي"، وسيفجّرون الجسر لقطع أوصال المنطقة أمام العدوّ الإسرائيليّ.
وصلنا إلى موقع "الأحمديّة"، بحثنا عن ساتر لكن أنّى لنا ذلك؟ لا أشجار، لا صخور، كانت أرضاً جرداء ترابيّة! لكن على الرغم من ذلك، تموضعنا وتجهّزنا للاشتباك.
أنجز المجاهدون مهمّتهم في الموقع وفجّروا الجسر. وعند الفجر، تمَّ الانسحاب قبل أن تغِير الطائرات المروحيّة، فالليل يقيّد تحرّكها ويعيق عملها. مع شروق الشمس، كنّا عند مفرق "زلّايا"، حيث تنتظرنا السيّارات لنقلنا إلى مكانٍ أكثر أمناً كالعادة. في هذه الأثناء، بدأت الطائرات المروحيّة بالتحليق فوقنا.
عندما غفا القنديل، وقبل أن يسطع نور الشمس أكثر، تمَّ سحبي إلى بلدة "سحمر" حتّى أنضمّ إلى باقي الشبّان في بلدة "مشغرة". كنّا أربعة، وهناك نقطة لقائنا بعد كلّ عمليّة أو مهمّة. في المكان الأخير لم تتوفّر سيّارات لاستكمال الطريق، فاستقللت ملّالة فيها من الأعطال ما لا يُعدّ. تحرّكت قليلاً ثمّ تعطّلت بالكامل في ساحة "مشغرة" عند حيّ المسيحيّين.
سلّمتها لأحد المجاهدين هناك، وكان عليَّ الوصول إلى بلدة "عين التينة"، فاستعنتُ بأحد السكّان، شابٌّ كان مقصده مقصدي، ووصلت بحمد الله.
* الاشتباكات تندلع من جديد
التقيتُ بقائدي، وتحدّثنا عن مجريات العمليّة التي نُفّذت. حينها، وصل خبرٌ بأنّ مجموعة تابعة للعملاء استهدفت الملّالة والمجاهدين الموجودين فيها، وسادت حالة من الاستنفار بعد سقوط شهيد وجريح من المجاهدين.
بدأ القصف من موقع "التومى"، بالتزامن مع استهداف الملّالة، ثمّ تقدّم جنود العدوّ فوق بلدة "ميدون"، كذلك عند خزّانها لاحت دبّابات الميركافا، فاستهدفت المرابض والمواقع التابعة للمقاومة. صار واضحاً أنّ هناك تنسيقاً للهجوم. وجاء الأمر بإلغاء التصدّي للمجموعة التي هاجمت الملّالة؛ لأنّ التصدّي للعدوّ الإسرائيليّ أَوْلى. عند مدخل "ميدون" كانت البشارة الأولى، حيث أُصيبت دبّابة لجيش العميل لحد، وقُتل فيها 8 لحديين على أيدي المجاهدين. وبعد إصابة أحد المجاهدين طُلب منّا الدعم والمدد. أمر القائد بالتوجّه حتّى آخر نقطة تطلّ على مثلّث "ميدون" واستخدام مضادّ الـ(106)، ومن ثمّ بدأ الاشتباك.
* عدتُ إلى الحياة بأعجوبة
كانت مروحيّة الكوبرا حينها. صبّت حممها على نقطة للجيش اللبنانيّ كانت تتصدّى لذلك العدوان. بعد ذلك استهدفت الـ"وِلِّس Wellis" الذي كنت أقوده وبشكلٍ مباشر. فقدت السمع على إثر الضربة الأولى، وكنتُ لمّا أغادر الآليّة بعد. انفجر كلّ شيء حولي، ومعه أجزاء من جسدي، وما تبقّى منه كان يحترق. فقدتُ وعيي حينها، وعندما استعدته، كانت النيران لا تزال تلتهم يدي، فرُحت أزحف إلى بركة ماء صغيرة لأطفئها.. بعدها، غبت عن الدنيا بما فيها من أصوات ودخان وطائرات.
* اسم مستعار
تمّ نقلي إلى مستوصف "مشغرة" لتلقّي الإسعافات. مكثتُ هناك يومين فقط، بُترت أثناءها إحدى ذراعيّ، لكنّ حروقي التي صُنّفت من الدرجة الأولى كانت تحتاج إلى عناية أكبر. لم تكن تجهيزات المشفى كاملة، نُقلت بعدها إلى مستشفى الإمام الخمينيّ قدس سره في مدينة بعلبك، ومن ثمّ إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، ورحتُ أتلقّى علاجاً لحروقي على مدى سنتين.
وهكذا، عدتُ إلى الحياة بذراعٍ واحدة، وبحروق موزّعة في أنحاء جسدي، وقدم مكسورة، وأخرى اخترقتها شظيّة ما زالت عالقة بوَهن، وشظايا في العين، مع نزيف هدّد حياتي لوقتٍ طويل.
* زواج غريب
لم يكن قلبي مطمئناً، ساورتني الشكوك مطوّلاً حولها، تُرى ماذا بها؟ أفيها علّةٌ ما أم إعاقة في أحد أعضائها؟ لماذا يريد والدها أن يزوّجني بها؟ هو يعلم بوضعي جيّداً، ألأنّي جريح؟ تلك الأسئلة كلّها خامرت عقلي مذ أخبرني السيّد أنه يريدني صهراً له، خانني ظنّي ربّما لأنّ العادة جرت أن يبحث الشابّ عن عروسه ويطلبها للزواج، لا أن تُقدّم إليه ويخطبه والدها، على الرغم من أنّ تلك عادة حسنة لا يمنع منها الدين. بينما أنا غارقٌ في تساؤلاتي وإذا بالعروس تحضر مع أمّها وتمثُل أمامي، إنّها كاملة الأوصاف! تعمّدت أن أطرح عليها بعض الأسئلة ليطمئنّ قلبي أكثر، فأجابتني بكلّ وعيٍ واتّزان! إذاً هي ليست بصمّاء ولا بكماء ولا عمياء، تلك المبادرة ما كانت سوى محبّة لي لكوني جريحاً فَقَدَ ذراعه، وترحيباً بي وتكريماً لما قمت به، وتحفيزاً لغيري من الجرحى أن الله هو الكافل أن تستمرّ الحياة وليست الجراح عائقاً يودي ببقيّة عمر من جُرِح. تمَّ الزواج بحمد الله من ابنة السيّدة الزهراء عليها السلام، ويا لها من كرامةٍ اختصّني الله بها! وقد رُزقتُ منها بأولاد أفخر بهم جدّاً هم زينة الدنيا.
* عندما تشرّفتُ بالإمام قدس سره
بعد انتصار الثورة، فرحتُ كثيراً أنّني كنت ضمن مجموعة الجرحى الأولى التي زارت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران ضمن برنامج علاجيّ. زرنا الإمام الرضا عليه السلام ، وقصور الشاه، وتشرّفتُ ومَن معي بالحضور بين يدي الإمام الخمينيّ قدس سره. وقد أكرمنا الله بأنْ عَبَرنا جسراً خلف حسينيّة جمران، حيث كان الإمام قدس سره يمكث قبل دخوله الحسينيّة، وهناك تبرّكنا بتقبيل يده الشريفة، ذلك كلّه ترافق مع رهبة عجيبة تقمّصتنا في حضرته حالت دون تفوّه أيٍّ منا بكلمة، وبعد ذلك دخلنا الحسينيّة.
* "لم يخضعني عدوّ، ولم تثنني جراح"
"كلّنا انتهينا من الحرب إلّا الجرحى فهم عنوان الحرب الذي لا ينتهي"؛ مقولةٌ تختصر وضع كلّ جريحٍ يعيش الحرب يوميّاً بجراحه، وألوان ذكرياته تحتفظ بصورٍ شكّلت حياته الجديدة بعد أن تبعثرت أجزاء جسده، كما الروح تحتفظ بأوجاعها بعد كلِّ طعنة. كذلك حالي تماماً، فأنا ما زلت أخضع للعلاج حتّى الآن، حروقي ما زالت تؤلمني منذ كانت سنيُّ عمري التسعة عشرة طريّة غضّة. وما زلت أشكر ربّي على عطاياه التي لم تَحُل يوماً بيني وبين ما كنت أتمنّاه، فقد حققّتُ كلّ ما طمحت إليه؛ تزوّجت بامرأة صالحة، ودرست سنتين في الحوزة، كما أنّي قرأت كتباً كثيرة، وخضعتُ لدوراتٍ دينيّة وثقافيّة عديدة، وما زلت أزاول عملي الذي أحبّ، ولم يُخضعني عدوٌّ، ولم يحدّ من أمنياتي جرح.
تاريخ الإصابة: كانون الأوّل 1986م.
مكان الإصابة: معركة ميدون الثانية.
نوع الإصابة: بتر الذراع مع حروق في كامل الجسد.