آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآملي
كثيرة هي أسرار الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، التي اختصّه الله سبحانه وتعالى بها لمكانته المقدّسة في هذا الوجود، منها ما يتعلّق بحياته ودوره بعد ظهوره الشريف، وفيهما أوجه شبه بحياة النبيّ موسى عليه السلام ودوره، ومنها ما يرتبط بأسمائه وألقابه، ومنها أيضاً ما يتعلّق بأعمال عباديّة خاصّة به، وهذا ما سنتعرّف إليه في هذا المقال.
•أوجه الشبه بين إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف وموسى الكليم عليه السلام
لعلّ الآية الشريفة: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5)، التي تلاها صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف لحظة ولادته، بيانٌ لبرنامجه الإصلاحيّ الموعود.
لقد أفادت الآية الكريمة: أنّ الله تعالى أراد تكويناً أن ينقذ المستضعفين من قبضة المستكبرين، ويجعلهم ورثة للأرض، من خلال تحقّق الإرادة الإلهيّة على يد هذا الإمام المقتدر الهمام.
يوجد تشابه كبير بين برنامجَي النبيّ موسى عليه السلام والإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في الثورة على الظالمين، كما أنّ مرحلة الحمل به ومولده لهما الشبه الواضح لما جرى لموسى عليه السلام أيّام الحمل به وولادته.
وقد ذكر بعض أهل المعرفة أنّ فرعون كان يقتل الأطفال الحديثي الولادة ظنّاً منه أنّ أحدهم قد يكون موسى، وعلى الرغم من ذلك كلّه انتصر موسى بعون الله على الفراعنة الذين كان مصيرهم الغرق في قعر البحر: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ (القصص: 40). وهذا النصر لم يكن بلا ثمنٍ؛ فقد استشهد عددٌ كبيرٌ من الصالحين صبراً حتّى مهّدوا الطريق لتجلّي موسى عليه السلام وظهوره.
إنّ الوجـود المـبــارك لـمـهـدي آل مـحمّـــد عجل الله تعالى فرجه الشريف كـوجـــود موســـى كـليـــم الله عليه السلام، فسيظهر لينجـــــي المجتمع الإنسـانيّ من طـواغيــت عصره وفراعنة زمانه.
•سرّ تسمية إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف بالقائم
لقد ذكرت الروايات وجوهاً متعدّدة في سرّ تسمية الإمام المنتظر بالقائم، نشير إلى بعضٍ منها فيما يلي:
1- عن أبي حمزة ثابت بن دينار الثمالي قال: "سألت أبا جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام: يا ابن رسول الله... أفلستم كلّكم قائمين بالحقّ؟ قال: بلى. قلت: فلِمَ سُمّي القائم قائماً؟ قال: لمّا قُتِل جدّي الحسين عليه السلام ضجّت عليه الملائكة إلى الله بالبكاء والنحيب وقالوا: إلهنا وسيّدنا، أتغفل عمّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليهم: قرّوا ملائكتي، فوعزّتي وجلالي، لأنتقمنّ منهم ولو بعد حينٍ. ثمّ كشف الله عزّ وجلّ عن الأئمّة من وُلد الحسين عليه السلام للملائكة، فسرّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائمٌ يصلّي، فقال الله عزّ وجلّ: بذلك القائم أنتقم منهم"(1).
2- عن الصقر بن دلف قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السلام يقول: ... قلت له: يا ابن رسول الله، ولمَ سُمّي القائم؟ قال عليه السلام: "لأنّه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته"(2).
3- روى محمّد بن عجلان عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "وإنّما سُمّي القائم مهديّاً؛ لأنّه يهدي إلى أمرٍ مضلولٍ عنه، وسُمّي بالقائم لقيامه بالحقّ"(3).
•سرّ تسمية الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ببقيّة الله
إنّ الوجه الإلهيّ هو الصورة الباقية التي لا تزول، والقائمة على أساس العلم والعدل. وإن شئت قلت: إنّ من كان من جهةٍ موحّداً يعرف ما عليه من الفرائض، عاملاً من جهة أُخرى بوظائفه، كان عالماً عادلاً، فله حظٌّ من وجه الله، ويتوفّر على نصيب من البقاء بقدر ما له من هذا الحظّ، كما يكون بتعبير القرآن من زمرة ﴿أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ﴾ (هود: 116)؛ أي من أصحاب البقاء.
وإذ تقرّر أنّ إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف هو الذخيرة الإلهيّة لإصلاح سائر المجتمعات البشريّة، سُمّي ببقيّة الله. كما أنّ سائر المعصومين، بدءاً بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاءً بخاتم الأوصياء إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف بقيّة الله، فهم في عالم الحقيقة باقون حاضرون مستعدّون لتربية الناس وتزكيتهم. ومن هذه الجهة، فهم المصداق البارز والكامل للعلماء الإلهيّين؛ ولذا كانوا -بحسب تعبير أمير المؤمنين عليه السلام- باقين ما بقي الدهر: "العلماء باقون ما بقي الدهر"(4)، و"يموت من مات منّا وليس بميّتٍ، ويبلى من بلى منّا وليس ببالٍ"(5). وعلى هذا، فهم أحياءٌ حتّى بعد موتهم الظاهريّ، في قبال من هو ميّت حتّى قبل موته الظاهريّ، كما يشير إلى ذلك أمير الكلام عليه السلام: "وذلك ميّت الأحياء"(6).
•صلاة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف تجلّ للتوحيد
وليُعلم، أنّ من الأعمال المستحبّة أداء صلاة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، التي تمثّل مع الدعاء الذي يتلوها مدرسةً في التوحيد الخالص. تشتمل هذه الصلاة على تكرار جملة التوحيد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الحمد: 5) مائة مرّة، وهي واسطة العقد وقطب الرحى بالنسبة إلى سورة الفاتحة. ويظهر أنّ وراء ذلك سرّاً عظيماً حاصله: أنّ المصلّي حين يصدر عنه التوحيد مائة مرّة بنحو يكون المفعول (إيّاك) مقدّماً على (نعبد) وعلى (نستعين)، فإنّه يلقّن قلبه التوحيد (مع إفادة التعبير بالاستعانة والعبادة الحصر) حتّى ينال التوحيد الخالص.
وفي كلّ ركعة من الصلاة يكرّر المصلّي جملة التوحيد مائة مرّة، وإذا أفادت هذه الجملة الحصر، يكون المصلّي قد تمرّن على توحيد الله أربع مائة مرّة. وعند ذلك يؤمر بذكر الدعاء عقب الصلاة في مناجاةٍ عرفانيّة قائلاً: "يا محمّد يا عليّ! يا عليّ يا محمّد! اكفياني فإنّكما كافياي"(7).
وترشدنا هذه التعاليم -ضمن إطار التوحيد- إلى لزوم قيام العمل والعقيدة على أساس التوحيد، لنتوجّه فيما بعد إلى التوسّل بوسائل القرب المرغّب فيها شرعاً. إنّ هذه الصلاة لا تعلّمنا أنّ الأئمّة عليهم السلام لهم التأثير بالاستقلال، فيكونون -والعياذ بالله- في مرتبة الحقّ تعالى أو تالين للذات الربوبيّة القدسيّة بلحاظ الاستقلال في التأثير، بل إنّ من كرّر الشهادة بالتوحيد أربع مائة مرّة ثمّ تضرّع في محضر أولياء الله قائلاً: "فإنّكما كافياي"، فقد اعتقد بأنّ هؤلاء هم الوسيلة إلى الله لا غير.
•الزيارة الجامعة والولاية
ونظير هذا المعنى ما ورد في زيارة أهل البيت عليهم السلام والزيارة الجامعة الكبيرة عند التشرّف بزيارة حرم أحدهم عليهم السلام؛ إذ على الزائر قبل قراءة الزيارة الجامعة وقبيل الدخول إلى القبر الشريف للمعصوم أن يقول مائة مرّة كلمة التوحيد (الله أكبر) إلى أن يصل إلى الضريح المطهّر، ليشرع حينها في قراءة الزيارة الجامعة. وحينما يأتي الزائر بهذا الأدب التوحيديّ الرفيع، ويقرأ في الزيارة: "بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض"(8)، يتّضح له أنّ الأئمّة عليهم السلام وسائط ومجاري الفيض. ويجري الكلام نفسه في الملائكة الذي يدبّرون أمر العباد: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ (النازعات: 5)؛ بملاك أنّ تدبيرهم إنّما يتمّ بإرادة الله تعالى وإذنه. كما أنّ زيارة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف لها هذا التأثير أيضاً، وصلاته درسٌ وعبرةٌ في التوحيد والولاية.
(*) مقتبس من كتاب: الإمام المهدي الموجود الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف، آية الله الشيخ عبد الله الجوادي الآملي، الفصل الثاني من الباب الأول.
1.بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص221.
2.(م.ن)، ج51، ص30.
3.(م.ن).
4.نهج البلاغة، الحكمة 147.
5.(م.ن)، الخطبة 87.
6.(م.ن).
7.مصباح الكفعمي، الكفعمي، ص176.
8.من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ح2، ص615.