نسرين إدريس قازان
شهيد الدفاع عن المقدّسات محمّد حسين ديب العنّان (رضا الحرّ)
اسم الأمّ: كوثر عمرو.
محلّ الولادة وتاريخها: برج البراجنة 1/9/1991م.
رقم القيد: 33.
الوضع الاجتماعيّ: خاطب.
مكان الاستشهاد وتاريخه: 26/8/2014م.
كان يظنّ أنّ رؤية الإنسان لحياته في ثوانٍ لا تحصل إلّا في الأفلام، إلى أن باغتته تلك اللحظات في منطقة "عسّال الورد".
يومها، كان بين يديه وأيدي رفاقه بعض الكرز والمشمش، لمّا تناهى إلى سمعهم حركة تنبئ أنّ أفراداً من "داعش" يقتربون منهم.
سقطت حبّات الكرز من يديه مع صوت أزيز الرصاص حوله، فركضوا جميعاً ناحية المنـــــــزل حيث تمركزهم. لفحت وجهه أغصان الشجر التي لمح بين أوراقها وجه أمّه المبتسم دوماً. لا يذكر أنّه لم يرَ ابتسامة أمّه يوماً، حتّى عندما تبكي.
•شريط الذكريات
رأى نفسه طفلاً صغيراً يجلسُ بين والديه وإخوته ليتناولوا الطعام، فلا يمدّ يده قبل أن يباشر الجميع بذلك. تلك المائدة الصغيرة المفعمة بالحبّ والحنان التي يتحلّقون حولها تحفظُ أخبارهم وحكاياهم التي لا تنتهي. لم يشعر بالأمان قطّ كما في بيته بين والديه، لذا عندما تداهمه أوقات الوحدة والغربة، يلجأ إلى تلك الذكريات الدافئة في بيتهم الصغير في حيّ الجامعة، فيرتع بين ذكريات طفولته منتظراً والده ليعود من عمله، أو يحوم حول أمّه وهي تعدّ البرامج الثقافيّة والاجتماعيّة، أو يساعدها بحزم أكياس المساعدات. لم يعرف كيف نبتت ملامح رفاقه وأصواتهم في تلك العجالة، ومواقف مرّت معهم كاد يطويها النسيان.
تسارعت نبضات قلبه ووجوه رفاقه من الشهداء تمرّ أمامه. طُلب إليهم الانسحاب إلى نقطة أخرى، بسبب العدد الكبير للتكفيريّين. تلاشت كلّ الصور القديمة من ذاكرة محمّد حسين، وهو ينسحب إلى نقطة استعادوا فيها زمام المبادرة، وبدؤوا هجوماً جديداً تسلّم فيه القصف المدفعيّ.
أخبر والديه أنّه شعر بقرب شهادته في تلك اللحظات، سكتَ قليلاً قبل أن يعبّر عن سعادته برؤيتهما مجدّداً، ولكنّه لم يدرك أنّ شعوره ذاك سرعان ما سيتحقّق!
•الصلاة في المسجد
لقد كان حقّاً صديقاً صدوقاً، وخصوصاً لأولئك الذين عملوا معه لفترة قصيرة، فقد كان يتصدّى لصاحب العمل ليسمح للعاملين بالذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة في أوّل وقتها، ولم يتهاون مع أحدٍ من رفاقه بهذا الشأن، فالصلاة في المسجد وفي أوّل وقتها، هي ما تضع الإنسان في طريقه الصحيح، هذا ما تعلّمه منذ أن كان طفلاً يرافق والده إلى المسجد، وهذا ما صقل عنده وعي خياراته عندما كبر.
•سكن روحه
عندما اندلعـــــت حرب الدفاع عن المقدّسات، تهافت المجاهدون للمشاركة فيها، ومحمّد حسين كان واحداً منهم. ربّما كان ينتظرُ هذه الفرصة ليستقرّ في مكانٍ ترتاحُ فيه روحه. وعلى الرغم من أنّه استقرّ في عملٍ خاصّ به، حيث فتح محلّاً لبيع الخلويّ، ولكن ذلك لم يشعره بالرضى الداخليّ، فمن عاش بين أكناف الجهاد، وانتظر سنّ السادسة عشرة ليلتحق بالدورات العسكريّة، وكبر ليكون مقاوماً، لا شيء في هذه الدنيا سيرضيه، إلّا بندقيّة ورصاص.
كانت المحاور سكن روحه. هناك تكاتف ورفاقه للدفاع عن الحُرمات، ولكنّ الذاهب إلى المعركة يظنُّ أنّه أوّل الراحلين، وإذ به يبقى ليرى أصدقاءه يمضون واحداً تلو الآخر، وكأنّ الشهادة لا تُقبِل إلّا على قلبٍ صار فُتاتاً. وأكثر ما كسر فؤاده، هو رؤية صديقه الشهيد علي حمادة الذي جُرح في المعركة، وحاصرته النيران، وحاول كثيراً محمّد حسين الوصول إليه، وسحبه، ولكنّه لم يستطع إلّا حين حُسمت المعركة، وكانت روح رفيقه قد فاضت إلى بارئها، وظلّ هذا المشهدُ يراوده في كلّ حين فيُبكيه.
•رائحة اقتراب الموعد
لفّ الغياب محمّد حسين، الذي ما إن عاد من الجبهة حتّى عدَّ الأيّام للعودة إليها، يأتي ليتزوّد من والديه وإخوته، ويعود إلى هناك بهمّة أكبر. في أحد أيّام شهر آب، كان محمّد حسين وأحد رفاقه في جرود فليطة يرميان بالمدفعيّة والرشّاشات الثقيلة مواقع التكفيريّين تحت أشعّة الشمس الحارقة. أوحل العرق والغبار وجهيهما، وقد مضى عليهما في الجرود ثلاثة أيّام، وفجأة قال محمّد حسين لرفيقه: "هل تشمّ هذه الرائحة الجميلة؟!". تبسّم رفيقه ثمّ قال: "بلى، نحن نستحمّ بأشعّة الشمس الحارقة منذ ثلاثة أيّام، فعن أيّ رائحة تتحدّث؟! يبدو أنّك ستستشهد اليوم وأبقى أنا".
تلفّت محمّد حسين حوله كثيراً محاولاً معرفة مصدر الرائحة، وأكمل المواجهة متنقّلاً من نقطة إلى أخرى، حتّى سقط من معه جرحى. اشتدّت ضراوة المعركة، فوقف على الساتر بكلّ شجاعة وبدأ برمي التكفيريّين بالقنابل تارةً، والرشاشات تارةً أخرى، رافضاً أن تسقط التلّة بيد الدواعش.
•"أمّاه.. كم اشتقتُ إلى ابتسامتك"
جسّد محمّد في تلك اللحظات صورة الشجاعة بأبهى صورها، وهو يرمي بنيرانه. كانت أمّه آنذاك في البيت منقبضة القلب، تحاول إشغال نفسها بأيّ شيء هرباً من قبضة الحزن التي اعتصرت قلبها، وانغرسَ وجع غريب في روحها، لم تعرف إلّا لاحقاً أنّها كانت بسبب تلك القذيفة التي أدّت إلى استشهاد ابنها، عندما سقطت بالقرب منه، فطار مسافة كبيرة وارتطم بالأرض نازفاً دمه.
استند محمّد حسين إلى صخرة، وهو محاصر بالنيران، نزف حتّى الرمق الأخير، وبقي وحيداً كما رفيقه الشهيد علي حمادة.
انتهت المعركة بعد ساعات عدّة. بحث المجاهدون عنه، ولمّا وجدوا جثمانه وهمّوا بحمله، فاح من بين جنبيه عطرٌ جميل، ولما وضّبوا أغراضه في الحقيبة، وجدوا رسالة فيها: "أمّاه.. عزيزتي كم اشتقت إليكِ.. كم اشتقت إلى ابتسامتك الطاهرة..".