مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

لقاء مع شاعر المقاومة السيد محمد القدسي

حوار: ولاء إبراهيم حمود

 



منها بدأ حديثه معنا... وبها استمرّ على نفس الموجة... ومنها استقى مسك الختام لحديث طال حتّى خلت أنّ السماء في ذلك اليوم الممطر الذي جمعنا به تمطر شعراً. همت المُزن قصائد... وتكاثفت السحائب تحاليل ومناقشات حول قضايا الشعر... حاولت أن أستخدم أسلحتي التي خبّأتها مكشوفة فوق الورقة فإذا به يدعوني إلى استعمال أسلحة أخرى... لا تطلق للخلف... ولكنها تبقى حاملة في أزقة الحارات الشعرية القديمة... التي تمتد على طريق النوافل بين بغداد وأعلى قمة جبل في الجنوب، إنّه يدعو دائماً إلى الارتقاء إلى هناك... إلى أعلى قمة الجبل...

ثمّة جميلة ولا أجمل تقف هناك وحيدة ولكنها تستطيع أن تغطي كوناً استفاض شعراً بجمال شموخها الذي راق شاعر هذا العدد من بقية الله.. حتّى ثمة سؤالان... لم أطرحهما بجرأة ولكنّه أجابني عنهما دون استفزازٍ مني ... على كثرة ما تبادلنا الاستفزاز... قل لي بمن تتأثر من الشعراء، أقل لك إن كنت شاعراً أم لا ... تأثر القدسي... بالكميت... بالخزاعي... وبسائر الأسماء الواردة... في قائمة شعراء آل البيت... وفي زمنه وزماننا تأثر بالسيد أبي محمد فضل الله... وبالسيد الدكتور مصطفى جمال الدين قدس سره. أويعقل أن يتأثر أحدنا بواحدٍ من هؤلاء من ينسج شعره على غير منوالهم؟..
أمّا سؤالي الثاني فما طرحته البتة ولكن إجابته جاءت حواراً كاملاً. تقول لي، ولكن إخوتي القرّاء... نعم إنّه واحد من أهم شعراء هذه التي لم تترك في شعره ظلاً لسواها... هذه التي استضاءت بجمالها كلّ فقرات الحوار... والتي قيل لي يوماً أنّه شاعرها... لقد صحّ القول وصدق القائل... وتقطع الشك باليقين لنقرأ في هذا الحوار عن تلك الواقعة فوق التلال وعن شاعرها السيد محمد القدسي.

*كيف أخرجت الحياة، السيد القدسي شاعراً؟؟
- يولد الإنسان محباً للجمال بفطرته، وعندما يصادف هذا الجمال تتبلور في نفسه أحاسيس مقابلة معه، مرادفة له... من الجمال الخلاّق في الطبيعة، إلى الجمال النوراني في صفاء الإنسان المنعكس في عيني أخيه الإنسان، إلى المعاناة... كلّ هذا يشكّل الحياة، وهي مجتمعة تشكل مجموعة عوامل الاستفزاز التي تستفز فينا الشعر، فنولد على مسرحها شعراء... هكذا تماماً وضعتني أمي للحياة... شاعراً.

*وكيف للشاعر أن يخرج قصيدته إليها؟ كيف يخوض مخاضها... أم أنّهما معاً جاهزان للحظة ولادة مشتركة؟؟
- أقف عند بدايات السؤال قليلاً.. أرفض تشبيه ولادة القصيدة بالمخاض، أنا مع ولادة دون عناء، دون تكلّف، أن يخرج الشعر من القلب هذا يعني العفوية المطلوبة لاستساغته..

*ومع ذلك هي الولادة، وقصائدنا أكبادنا تمشي على صفحات الحياة... وربما انعكس الأمر وصار أولادنا أغلى قصائدنا...
- هم يقيناً كذلك، وهم أغلى درجة وأعزّ مكاناً... غير أنّي أريد أن أقول أن تفاعلي مع أيّ حدثٍ يولدُ عندي بشكل لاشعوري قصيدتي وهاكِ مثالاً قريباً: غالباً ما أعايش المجاهدين في محاورهم أسبوعاً أو أسبوعين وحينها أجهل تماماً كيف تأتيني الأفكار، وكيف تتشكل أمام ناظري قصيدتي، كأنّني في إغفاءةٍ لا أستيقظ منها إلاّ عند عودتي من المحور فأجد أنّني قد كتبت أكثر من قصيدة... وهنا أؤكد لك أن القصيدة المتحركة في عمق الوجدان، تخرج بلا عناء وبلا تكلف ويخرج معها الشاعر أيضاً شاعراً بلا معاناة ...

*ريما كان معنى المكابدة والمعاناة في ولادة النص المرفوض لديك، هو الذي يعطي القصيدة قيمتها لصاحبها كقيمة الولد لوالده؟
- إذاً لننظر فيما بعد القصيدة ... إنّني أرى أن أغلى ما يمكن أن ينتجه الإنسان، تأثيراً وفعاليةً في ضمير الأمة، هو النص الذي يخرج به الشاعر أولاً والفكرة التي يقدمها العالِمْ. بهذا المعنى يمكن للقصيدة أن توازي عزيزاً، وأنا أفهم هذا الشعور، رغم أنّي لم ألِدْ حتى الآن سوى القصائد... ولكني لا أفهم حتّى الآن شعوراً غامضاً... يؤلمني كلما تذكرت أنني فقدت يوماً أغلى قصائدي التي كتبتها على أصعب بحور الشعر – البحر المضارع – أشعر بالمرارة لفقدها ولا أشكّ أن فرحي سيكون عظيماً لو حدث ووجدتها فجأة... أهكذا تكون مشاعرنا تجاه أولادنا؟ مرارة عند الفقد وحرارة عند الإيجاد ولادة؟.. إن كان الأمر كذلك فلنعتبر كلمتي ولادة ومخاض فيما يخص علاقة الشاعر بقصيدته من قبيل الشرط المتأخر، ولأسلم معك أنّه بهذا المعنى مخاضٌ ومخاضٌ عسير.

*إن تسليمك الأخير يعطي جواباً إيجابياً لسؤالي الذي تأسّس على رفضك السابق: إنّ السيد القدسي يرتجل الشعر إذاً؟؟
- (يقاطع مستنكراً وبشدة) .. لا .. لا... هذا ليس صحيحاً على الإطلاق، أنا أعتبر أنّ الارتجال في الشعر يفتح أوسع أبواب الإسفاف، لأنّ ما يرتجل عادةً يفتقد للإبداع...

*ولكنك تحدثت منذ قليل عن عفوية الخواطر.. ثمّ كيف تقوم قيمة بيتٍ واحدٍ من الشعر اختصر بارتجاله تزاحم مشاعر مكثفةٍ في لحظةٍ ما، قد تبقى ذاكرة أخرى في ذاكرة مستمعيه؟؟ أم أنك لا تحسن الارتجال؟؟
- ماذا يعني أن يصف أحدهم سقوط خمار المتجردة عن وجهها؟ أو أن يصف لحظة وقوع كوب من الشاي أرضاً هذا ليس شعراً على الإطلاق. "سقط النصيف ولم ترد إسقاطه".. إنّه حادثة استقامت على وزن ليس إلاّ.. ثمّ إنّني لا أجيد الارتجال؟؟ من قال ذلك، إنّ كلّ من عايشني يشهد لي بأنّي أجيده ولكني أدعوني وسواي إلى التأنّي في الكتابة، إلى تشكيل الروح الأدبية المتميّزة بصورة شاعرية خلاّقة، وأدعو بالخصوص، شعراء المقاومة الإسلامية إلى أخذ القصيدة على محمل الجد واعتبارها مشروعاً ضخماً يحتاج تخطيطاً ودراسة.

* هو المخاض إذاً... وبعدها الولادة...
- لقد سلّمتُ لكِ بذلك، منذ قليل.

*لماذا خصّصت شعراء المقاومة بدعوتك السابقة؟ هل ترى معظم أشعارهم تعاني من انطفاء الصورة الشعرية اللائقة بالمقاومة وتعرف في الرتابة والتكرار؟ أم أنّ هناك أمراً آخر؟؟
- في الواقع هو ما ذكرتِ، أنا أعتبر أنّ المباشرة في التعبير المتجلية في غياب الصورة الشعرية الحقيقية، هي أحد أهم المشاكل التي تعانيها قصائدها، هي السطحية التي تشكل مقتلاً لها ومماتاً، وما يؤكّد هذا الأمر أنّ تراجع الاهتمام بالشعر عامّة أعطى الشعراء – حتّى المقاومين منهم – تبريراً مفاده "إنّو الناس ما بتفهم إلاّ هيك" أنا أرى عكس ذلك وقد صرّحت بهذا لبعض الأخوة الشعراء المقاومين الذين أجلّهم وأحترمهم، وأعلنت أنني لن أكتب بعد اليوم قصيدةً أجاري بها الآخرين، بل سوف سأسعى بدوري لكتابتها راقية...

* يبدو وكأنّ القضية دخلت أروقةً قضائية للتحاكمّ! يرى الناس أنّ الشعراء يغتالون قصائدهم خنفاً، ويرى الشعراء أنّ الناس لا يفهمونها.. ماذا يرى السيد القدسي؟ وفي ملعب من سترمي كرة الاتهام؟؟
-بتصوري أنّ المشكلة هي في جانب القابل لا في جانب المقبول. والكرة تقع في ملعب الشعراء وبالتالي يقع الحكم عليهم، على شعراء اليوم الذين أخذوا الشعر في منحىً غريب الأطوار، جعلوه شجرةً خريفية، لا زهر ولا ورق.

* لنحدّد معاً جوانب القضية؟ ما هي تحديداً صفات القصيدة الجيدة؟؟
- أرى أن محض القصيدة، محض الشاعرية، تبرز في مجال المحاكاة، محاكاة الداخل، وهذه المحاكاة تنجح حتماص، إذا ما تفاعلت في داخل شعوري هو الإنسان، في أرقى درجات إنسانيته، فتأتي القصيدة قطعة أدبية فخمة، لأنّني أنفي تماماً، وجود أيّ إبداع شعري في قصيدة تعتمد المعرفة المجرّدة عن الشعور الإنساني، هذه القصيدة الموجودة في وجداننا إنساناً آخر يولد وينمو ويستمر، أو يولد ... ميتاً إذا خلا من المحاكاة مضافاً إليها قدراتٍ فذّة في مجال التعبير الشعري بألفاظ عذبة جذلة بعيدة عن الغريب منها المستعمل أحياناً لمجرّد التمايز.

*هذه أسس القصيدة؟ كيف يكون شاعرها؟ ما هي شروط انتسابه إلى كلية الآداب التابعة للمقاومة الإسلامية شعراً والتزاماً؟؟
- الشاعر الحقيقي، هو الرسالي الذي يحمل خشبته على ظهره، وأمته على عاتقه..

*أيستوعب عصرنا دِعْبلاً آخر؟؟
- عليه أن يستوعبه إن وُجِدَ، وعلينا أن نعلّمه استيعابه أو تعتقدين أن دعبلاً "أو نسخته" سيبقى غريباً في عصرنا، لو خاطب أبناءه عن طريق القلب، والقلب مباشرةً؟؟ لا أعتقد ذلك، إنّ الواقف على الأطلال غريب، والباكي خساراته الخاصّة، بعيدٌ يبكي وحده، وهما معاً مرفوضان، لأنّهما لن يخدما الأمة بشيء، ولن يؤرّخ لهما التاريخ، لأنّهما لم يكتبا له ما يستحقّ التأريخ.

* ولكن الشاعر ابن بيئته، وبيئته لم تعد تعبأ بالشعر إلاّ قليلاً، في زمن يدفع تكنولوجياً بأسرع من الضوء...
- يقاطع مستنكراً: الشاعر ابن قضيته والقضية اليوم مقاومة وهي ليست فقط على جبال صافي إنّها في كلّ مكان في كل شأن يساعد في صياغة الإنسان، إن من لم يهتم بأمور المسلمين ليس بمسلم، إن من يكتب الشعر ولم يكن محوره قضايا الأمة الإسلامية، ليس بمسلم وليس بشاعر أيضاً، لأنّ الشعور بقضايا الآخرين المحقّة يؤكد انتماءها لدين الله والإنسان، وبالتالي يولد شعراً بهذا المستوى، إنّي كتبت عن مأساة البوسنة والهرسك، كما كتبت عن مجزرة قانا وكتبت للثورة الإسلامية في إيران كما كتبت عنهما في جبل عامل أو في فلسطين، الشاعر إذاً ابن قضيته، ابن رسالته، لا ابن بيئته.

*إذا حاجتنا للسؤال الثاني تنتفي: من هو برأيكم هذا الشاعر؟
-ولماذا تنتفي، أنا لم أسمِ اسماً بعد؟
إنّ إجابتك تشي بك..
-صدّقي أنّنا أعتبر شعري أدنى مرتبةً من أشعار سواي حتّى أولئك الذين أتبادل معهم النصائح، إنّ سماعي للمدح والثناء في المحافل الأدبية الكبرى، لا يقنعني أبداً، في أنّني الأفضل، ربما كنت الأكثر انضباطاً على جادّة الشعر المقاوم، لكنّني لستُ الأفضل على الإطلاق..

*حسناً.. من هو برأيكم شاعر المقاومة المعاصر وما هي أبرز ملامح شعره؟
-السيد عبد المهدي فضل الله... رما اعتبره البضع معقّداً لفظياً "بكسر القاف".أنا أراه مثقفاً لفظياً "بفتحها وكسرها هذه المرة". لأنّه يخاطب الجماهير بلغةٍ مثقفةٍ، تستطيع تثويرها، وتفعيل مشاعرها باتجاه ما يخاطبهم به، وهو قد حمل همّ المقاومة إلى أكثر من منبر في لبنان وخارجه أيضاً يحدّده في ذلك إخلاص لما يقول وإيمان بما يفعل.

*ألا توافقني الرأي أنّ السيد عبد المهدي فضل الله قد أتانا ديواناً من قلب العصر الإسلامي، وشاعراً يرتدي عبارة "كعب بن زهير بن أبي سلمى" معتنياً عنايته نفسها بشعره ويحمل عصاه ولكنه يختلف عنه في أنّه لم يُلْقِها حتّى اللحظة؟؟
-هنا تكمن أهمية السيد عبد المهدي... أهمية الشاعر الذي يساعد لا في ترقية الناس بل في تثقيفهم والأخذ بأيديهم، لا لاكتساب خبرة التذوق الجمالي للشعر فقط، بل لمعايشة الصورة معه ومساعدته على الفهم حتّى يعتاد المستمع شعراً جميلاً مثقفاً، فيبحث عنه ويطلبه، بدل أن يُلقي إليه وهو مكتفٍ بالجلوس في القاعة. عليّ أن أجعله عند سماعه إياي يغلق عينيه عن الجدران الموجودة أمامه ليحلق ويرتقي إلى حيث أريد له أن يرتقي... معي كشاعر مجيد.

*ربما كان حلاّ لأزمة الإبداع. ولكن ألا ترون حلولاً أخرى.. لا تعتمد فقط على جهد الشاعر، الثقافي والتثقيفي؟؟
-بلى؟ ولكنّنا نرى مشاكل أخرى وعند الشعراء أيضاً.. أنّ مشكلتنا تكمن أيضاً في شاعر اللحظة، أي الشاعر الذي يكتب قصيدته في اللحظات الأخيرة قبل إلقائها في احتفال لمناسبة ما، ليته اكتفى بأن يكون شاعر مناسبة، بل هو يُصرّ على الاستخفاف بمن تجشموا المشاق لسماعه، وأتوا ربما من أماكن بعيدة، فجاءهم على عجلٍ وقد كتب قصيدة ليس فيها إلاّ الوزن والقافية، الذي يتأرجحان أيضاً على وقع مطبات الطريق التي تتقافز فوقها سيارته..

*ألا توقف هذا الشاعر "المستعجل" لتنصحه باستعمال إحدى قصائده القديمة؟.. ما رأيك بمن يحلّ مشكلة السرعة وضيق الوقت بالوجبات الشعرية السريعة والجاهزة؟؟
-إنّها وجبات "بائتة" وهي تفتقد أصلاً إلى المواد الحافظة وهو أمر يصبّ في خانة الأخلاقيات للشعر أخلاقياته وللشاعر أيضاً وأبرزها وأهمها أن يحترم الشاعر نفسه باحترامه لقصيدته ولمستمعيها. وأن لا تتعدد منابره وقصيدته واحدة مستهلكة... لأنّ في ذلك إساءة لسمعته كشاعر ومصداقيته كإنسان..

*ما هي أبرز ملامح الحل الآخر برأيكم؟
-إن إنشاء المنتديات الأدبية التي لا تكتفي بنشر كلّ ما ينتج بل تحاكمه وتقوّمه، كفيلٌ بالمساهمة بحل هذه المشكلة... وهنا أسجّل وللأمانة فقط، أنّ القيّمين على الحالة الإسلامية، قد وعوا أهمية الشعر في الصراع مع العدو الإسرائيلي فاهتمّت بشعرائها وفتحت لهم مختلف مجالات التعبير.

*أترون أنّه كافٍ بهذا المقدار؟ ولمّا عُرفت أهمية الحاجة إلى الشعر، لم يكتفِ القيمون على فتح الباب التعبيري دون العمل على دعمه معنوياً ومادياً، كي يتحسن مستوى التعبير الذي تحتاجه الحال الإسلامية؟
-من يقول هذا القول؟؟ إنّ الحالة الإسلامية تمتلك مع جماهيرها خطاباً واضحاً وهي لا تحتاج لمن يعبّر عنها – إنّ أيديولوجيتها واضحة وضوح الشم، بيّنة بيان الأمس... إنّ للشاعر مدعوماً أو غير مدعوم بشرف الالتحاق بركب الحالة الإسلامية ومقاومتها الرائدة... نعم أعترف أنّ الباب الذي فتحته لشعرائها ما زال موارباً بعض الشيء، لذلك أدعو ومن منبر بقية الله إلى الاهتمام الإعلامي التوجيهي الحقيقي بالشعر. واقعاً ومستقبلاً عبر الوسائل الإعلامية كافة مرئية ومسموعة ومقروءة أيضاً...

* والآن ما هي سِمات القصيدة المقاومة فنياً، وما هي ملامح صاحبها؟؟
-لما نتوصل بعد إلى استجلاء ملامح القصيدة المقاومة، هي ما زالت وليدة لما تتجاوز شهرها الأول من عمرها إذا ما قيس هذا العمر على مستوى إنجازات المقاومة الرائعة... ما زالت هذه الوليدة تعاني اختناقاً يشوّه ملامحها. وآمل أن تتوصّل إلى التنفس يوماً رئتاها كي تقاوم بحقٍ. ربما كانت القصيدة النموذج للمقاومة هي تلك التي تجيد فنياً ومعنوياً محاكاة الفعل المقاوم. فتصاغ بعرق جبين المقاومين ومن دمائهم تأخذ مداها، وعلى حكايات بطولاتهم، تؤسّس بنيويتها المتوازية كوحدة متكاملة.
أما عن ملامح شاعرها، فأنا أعلن ومن منبر بقية الله تقصير معظم الذين ادّعوا كتابة الشعر المقاوم، فضاعت ملامح المجيدين منهم في زحمة الوجوه، وإن كنت أقدّر للقلّة القليلة جهدها فإنّني أعلن أنّ المحاكاة المطلوبة ليست فقط في إبداع النص المقاوم، بل في تكوين السلوك المقاوم، وبهذا المعنى أرفض من يكتب للمقاومة نهاراً ليتكئ على أمجادها ليلاً، في ملهى ليلي أو في خمّارة فجور وادعوه إلى الاتكاء إلى عديلةٍ فارغةٍ مثله تماماً، لأنّ المقاومة بخير ولا تحتاج أمثاله، لأنّ من يكتب للمقاومة عليه أن يتوضأ بمثل عرق مجاهديها، ومن توضأ بمثلا هذا العذب النمير اغتسل بالنور قلبه، فلا يعرف الرجس إليه سبيلاً.

*ألا تعتقد أنّ النص المبدع هو غايتنا وأنّ علينا محاكمة الشاعر في شعرهن لا الشخص في سلوكياته الذاتية؟؟
-لم يكن هذا القول معتقدي يوماً، ولن يكون... إنّني أرفض الارتزاق المعنوي على حساب المقاومة أكثر مما أرفض الارتزاق المادي، لأنّ هذا الأول... ارتزاقٌ خسيسٌ دنيء انتهازي يتسلّق سُلّم انتصارات المقاومة متناسياً صاحبه، إنّ لهذا السلم خاصية السلم الكهربائي المتحرك دوماً إلى الأمام تاركاً أمثاله في أول الطريق البعيد عن فردوس الكرامة عند الله، إنّ من يقوم بكلمته عليه أن يعبر عن قداسة المقاومة. بقلب قد تقدس هو الآخر، بنور الالتزام الحقيقي بنور المقاومة ونهجها.

*أليست الأناشيد الإسلامية،أكثر فاعلية في تثوير مشاعر المقاومة من قصيدة على منبر؟ وما رأيك في الديوان المسموع بديلاً لذاك المقروء "الكاسيت" وخاصّة أنّك واحد من معتمديه؟ وماذا عن ديوانك المكتوب؟ متى نقرأه...
-ما زال الوقت باكراً، وباكراً جداً لذلك، لأنّ شعري ما زال في طوره الأول.. رغم أنّني "قاومت" بالشعر باكراً في الثالثة عشرة من عمري.. وما هو شائع من قصائدي اليوم، عبر الشريط المسجّل، هي فكرة بناءة لسواي، وجهدٌ مشكورٌ لمن قام بالتسجيل وبإذن مني طبعاً. إنّها وسيلة إيصال معاصرة، وهي جيدة وفاعلة، ومع ذلك اعتبرها مؤشراً خطيراً لتدني مستوى القراءة وربما كان هذا التدني مسؤولاً فهي تصل إلى قلوب الناس عبر أوزان القصيدة المُلحّنة وربما للغنائية التي فُطِرنا عليها يستيغ البعض منا هذا اللون التعبيري الجميل، وهنا يقودني الحديث إلى ذكر الأخ أنور علي نجم وأراه منشداً ممتازاً وشاعراً فذاً، وهو يعايش همّ الإنتاج الأكثر في معرض توجيه التحية الخالصة للمقاومة وهذا بحدّ ذاته أمرٌ نبيلٌ نسجله له، ولكنّني أنعى عليه عدم عنايته بشعره وبلغته وبأوزانه رغم قدرته على ذلك تأكيداً، وهو بعد من القلّة الذين يجمعون بين الخطاب المقاوم والنهج المقاوم.

*بناءً على هذا الرأي، نستطيع القول أنّ الموزون المقفّى أكثر صلاحية من الشعر الحر للحديث عن المقاومة والتعبير عن قضاياها؟؟
-طبعاً وذلك لما للوزن والقافية من قيمة موسيقية يوجدها نظام التفعيلات والبحور الشعرية المعروفة، وذلك لترسيخ الروح الثورية في وجدان الناس، وهو بعد أكثر سهولة في الحفظ كونه أكثر محاكاة للغنائية الموجودة في أعماق الناس وربما لُحّنت بعض المقاطع التي اعتمدت نظام التفعيلة الواحدة وتبقى منضبطة على وزن وجرْس موسيقي داخلي...

*هل كتب القدسي الشعر الحديث؟
- هذا ذنبٌ لن أقارفه، أنا أعتمد على النبض الحي لإيصال أفكاري، عن المقاومة وإليها، وجماهيرها. إنّ الشعر الحديث، خنثى، لا ذكر ولا أنثى. لا هو بشعر ووزن وجرس ولا بنثر عادي، لست من مشجعيه ولا من مؤيديه..

*ولكنّه وجهٌ من وجوه عصرنا، وذلك على مبدأ لكلّ عصر وجهه؟؟
- ها أنتِ تقولينها هو وجو من وجوه، وهو ليس الوجه الوحيد، والشعر العمودي بهذا المعنى أكثر تجدّداً وأكثر حداثةً لأنّه يستطيع التمظهر بروح العصر، عن طريق تحديد المواضيع وإحياء ما هو نافع مفيد دون التخلّي عن خصائصه الجمالية التي يفتقد إليها الشعر الحديث...

*هل ترى أنّ الدراسة الحوزوية أثّرت على شعرك؟ سلباً أم إيجاباً وأين هي مكامنه، في النواحي الفنية أم الموضوعية الفكرية؟
-هي فعلاً تؤثر بشعري، وأنا أعتبر شعري مديناً لها بأي نجاح يحقّقه. أدين لها بثقافتي وشموليتها وتنوعها تبعاً لشمولية المناهج الحوزوية وتنوعها، وربما كان الدين بقيمه لوناً رائعاً لنسيج شعري على نوال اللغة المكتوبة بالخيوط البرّاقة للمعاني الدينية الهامّة في بناء تكويني الشعري المقاوم، وليكن هذا السؤال مناسبةً أدعو خلالها شعراء المقاومة للتزوّد من هذه العلوم قدر المستطاع، حلاً للمشاكل التي أثارها هذا اللقاء من افتقاد للإبداع، وتسطيح للغة وتهميش للفكرة، وإلاّ سيهرب الكثير منهم إلى الحداثة إخفاءً لعجزهم عن كتابة الشعر مستقيماً على جادة الأوزان العربية المعروفة. هذه الأوزان الخاصّة بلغتنا القرآنية الانتماء. لهم أن يفعلوا ذلك على مبدأ الشاعر اللبناني. الذي شارك في مؤتمر الشعر في بغداد في عهد رئيس عراقي سابق، فألقى قصيدةً تتحدّث عن شتاء هولندا والبقر في مكان آخر. ولِما لم يجد هذا الرئيس تفسيراً موحداً لمقصود الشاعر من هذه القصيدة بين عشرة نقاد أو أكثر كان قد طلب منهم ذلك. منع نشر القصيدة أو نشر سواها من الشعر الحديث المتحدث بغير أسلوبنا وقضايانا بل وحتّى لغتنا.

*ألا تسمح لنا بالابتعاد قليلاً عن خضمّ المقاومة الإسلامية، وعن كتابة الشعر على مرافئ المشاعر الإنسانية الأخرى سوى المقاومة؟ ألم تستهل يوماً بمطلع غزلي؟ مع تأكيدنا أنّ المقاومة تملك أغلى تاء تأنيث عرفتها اللغة؟؟
-كتبت غزلاً واحتفظت به لنفسي... ولم ولن أنشره بين الناس.

*لماذا ألا تقبل المقاومة "ضرّة" في عشقها؟ أم أنّها طاقية الإخفاء؟ تلك اللعبة الطفولية القديمة التي تخبئ فيها دائماً خصوصياتنا؟
يبتسم لآخر الأسئلة ويجيب بالنفي على مبدأ "لا هذا ولا ذاك". ولكنها المقاومة... حبيبة لا ترقى إليها أخرى وهو فارسها، وشاعرها بإجماع الكثيرين من الشعراء... وهذا هو مهرُها... قصيدة تنبض بحبها.. بعد أن تتفيأ طويلاً.. ظلال المقاوم الباقي في الوجدان. منذ ألفٍ وأربعمئة عام.. ذاك الواقف على ضفاف الغدير الذي ظللنا جميعاً موعده... بالأمس القريب من هذا الحوار الطويل...

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع