نص كلمة ولي أمر المسلمين وقائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله السيد علي الخامنئي (حفظه الله) لدى لقائه جمعاً من عوائل الشهداء ومجموعة من أهالي مختلف مدن إيران في شهر ذي الحجة الحرام.
أرحِّب بالأُخوة والأخوات الأعزاء ولا سيما الأُسر الكريمة لشهدائنا الأعزاء وبالأخص الأُخوة والأخوات الذين تحمّلوا عناء السفر من المناطق البعيدة لحضور هذا الاجتماع.
هذه الأيام هي أيام العشرة الأُولى من شهر ذي الحجة وهي من أبرز الأيام على طول السنة بلحاظ المناسبات والذكريات القيّمة للأئمة الأطهار (عليهم السلام) التي تصادف هذه الأيام من جهة، وبلحاظ المسائل المرتبطة بعيد الأضحى المبارك وهو عيد المسلمين العظيم، والذي له معنًى رمزي مهمّ هو مسألة الأضحية في هذا اليوم العظيم من جهة أخرى، وما يتعلّق بيوم عرفة وهو يوم الدعاء والتضرّع والتوسّل إلى الله سبحانه وتعالى من جهة ثالثة.
ورغم أن اقتران يوم عرفة بيوم استشهاد مسلم بن عقيل (عليه السلام) قد أضفى عليه طابعاً من الحزن والأسى، إلا أنّ العطاء المبارك لهذا اليوم جعل منه- في الحقيقة- يوم عيد وبركة ورحمة.
وما أُريد أن أؤكّده لكم- أيها الأُخوة والأخوات الأعزاء ولجميع أبناء الشعب الإيراني- هو أهمية وضرورة استغلال هذه الفرص وهذه الأيام للتقرّب إلى الله (عزّ وجلّ). فلا يتصوّر أحد بأنّ الدعاء والتوسّل ليس له دور في حياة شعب يمرّ بمرحلة إعمار بلاده، بل أقول إنّه لا بدّ لشعب أمامه طريق شاق وطويل ويهدف إلى إنجاز عمل عظيم أن يفتح لنفسه باباً واسعاً للدعاء والتضرّع وطلب العون من الله إلى جانب العمل الجاد والسعي الحثيث.
ولها نرى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) كانوا يمدّون يد التوسّل والدعاء ويلتجئون إلى الله (سبحانه وتعالى) في الحروب وفي ساحات الخطر وعند القيام بالأعمال الكبيرة وعند اتّخاذ المواقف المهمة. فهل بإمكان أحد أن يقول بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمين في الصدر الأول لم يبذلوا الجهود المضنية من أجل أداء مسؤولياتهم؟ وهل توجد مساعٍ وجهود أكبر من المساعي والجهود التي بذلها أُولئك المؤمنون؟ فالعشر سنوات التي تولّى فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) زمام الأمور في المجتمع الإسلامي كانت مليئة بالجهود الجادّة والمساعي الحثيثة.
وإلى جانب تلك الجهود والمساعي التي كان يبذلها النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمون، كان للدعاء والتوسل والاستغفار والإنابة مكانة خاصة في حياتهم. إذاً فالسبيل الوحيد الذي تستطيع الأمة من خلاله تحقيق النجاح في حياتها هو تعزيز وتوطيد العلاقة مع الله (سبحانه وتعالى).
فإذا أرادت الأُمّة إنجاز الأعمال الكبيرة لا بد لها من طلب العون والمدد من الله، وإذا ما أرادت إزالة الخوف من الأعداء فيجب عليها أن لا تخشى أحداً إلا الله؛ لأنّ مصائب الشعوب ناشئة- كما تعرفون- من خشيتها وخوفها من القوى الاستكبارية والأشقياء وقطّاع الطرق الدوليين، والأُمّة تبدأ بالسقوط في منزلق الذلّة والهوان عندما يتسرّب الخوف إلى قلبها من أصحاب القوة والأشقياء في العالم.
وهذا الأمر لا يقتصر على أبناء الأُمّة فحسب، بل إذا تسرّب الخوف من القوى الكبرى إلى قلوب مسؤوليها وأولياء الأُمور فيها، فسوف تكبّل أيديهم وأرجلهم ولا يستطيعون القيام بأيّ تحرّك من أجل خدمة شعوبهم. والسبيل الوحيد لتقدّم أيّ شعب وتمكينه من الاستغلال الصحيح لقابلياته وطاقاته الذاتية ينحصر في عدم خوفه وخشيته من القوى الطاغوتية وقطاع الطرق الدوليين.
ولكي لا يخشى الإنسان من القوى الكبرى يجب عليه تركيز الخوف من الله تبارك وتعالى في نفسه. فالقلب المليء بالخوف من الله والعامر بحبّ الله (عزّ وجلّ) لا يتسرّب إليه الخوف والرعب من أيّة قوّة في العالم مهما تعاظمت. وهذه هي الفائدة الحقيقية المترتّبة على الدعاء والتوسّل إلى الله.
والسرّ الكبير في نجاح إمامنا الراحل قدس سره الذي وقف كالجبل الشامخ بوجه القوى الكبرى- كما كنتم ترون- يتمثّل في علاقته الوطيدة مع الله سبحانه وتعالى. وما يجعلني أُركِّز على أهمية الدعاء والتضرع- ولاسيّما بالنسبة لكم أنتم أيّها الشباب- هو أنّ مستقبل هذه البلاد ومصير هذا الشعب سيكون بأيدي الشباب الأعزّاء. فيجب على الشباب أن لا يسمحوا للخوف من القوى الكبرى أن يدخل إلى قلوبهم، وأن لا ينبهروا بالمظاهر التي تمتلكها تلك القوى. وهذا لا يتحقّق إلا عن طريق الأُنس مع الله والدعاء والتضرّع التوّل إليه تبارك وتعالى. ويوم عرفة- الذي سنستقبله- هو أحد الأيام التي يمكن للإنسان أن يوطّد فيها علاقته مع الله سبحانه من خلال الدعاء والتوسّل. وبهذا فلا بدّ من معرفة القيمة الحقيقية لهذا اليوم العظيم.
وقد رأيت في رواية أنّ عرفات سُمِّيت عرفات لأنّ هذا المكان وهذا اليوم هما فرصة للإنسان كي يعترف بذنوبه بين يدي الباري (عزّ وجلّ).
فالإسلام لا يجيز للإنسان الاعتراف بالذنوب والخطايا أمام الآخرين، أمّا بين يدي الله سبحانه وفي خلواتنا مع أنفسنا فلا بدّ لنا من الاعتراف بقصورنا وتقصيرنا وأخطائنا وذنوبنا التي تكبِّلنا وتعوّقنا من التحرّك وتكون سبباً لاسوداد وجوهنا أمام الله. وإذا ما أراد الإنسان أن يسير في طريق الخير والصلاح فلا بدّ له من الاعتراف- بينه وبين ربّه- بذنوبه وعيوبه. أمّا الذين يتصوّرون أنّهم مبرّؤون من كلّ عيب ونقص فلن يتمكّنوا من السير في هذا الطريق أبداً.
وهذا الأمر لا يقتصر على الفرد فقط بل ينطبق على المجتمع أيضاً. فإذا أراد المجتمع أن يسير في طريق الرشاد لا بدّ له من معرفة مواضع أخطائه وانحرافاته، ومعرفة ما هي تلك الأخطاء التي ارتكبها؟ ويعترف بذنوبه بين يدي الله. ولذا يجب على الأُمّة الإسلامية اليوم أن تعترف بتهاونها في أداء مسؤولياتها تجاه الإسلام العظيم، وعلى المسلمين في العالم أن يعترفوا بأنّ متابعة القوى المعادية للإسلام والقبول بالثقافة الغربية الفاسدة والمبتذلة هو انحراف عن الطريق السوي. وإذا ما اعترفت الشعوب الإسلامية بهذه الأُمور فإنّ الطريق سيفتح أمامها وتكون قادرة على إصلاح نفسها.
فالإعلام العالمي يريد أن يشغل الشعوب؛ حتى لا تستطيع أن تميّز بين الخطأ والصواب. وهذا ما تشاهدونه في وسائل الإعلام العالمية من صحف وإذاعات وفي مختلف المجالات السياسية والاقتصادية وفي مجال الاستهلاك وغيرها من المجالات.
أما السرّ الأساسي الذي حدا بالشعب الإيراني أن يقوم بهذه الثورة العملاقة- التي أيقظت الشعوب من نومها وأوجدت هذا التحوّل العميق- فهو رجوعه عن الطريق الخاطئ الذي سار عليه مدة من الزمن. فقد عرف هذا الشعب أنّ متابعة السلاطين والظلمة والسكوت عمّا يرتكبونه من ظلم وإجحاف هو سلوك خاطئ لا بدّ من تغييره، فأبدل هذا الطريق المنحرف بآخر سليم، الأمر الذي جعله ينال التوفيق والسعادة. وقد فتح الشعب الإيراني بموقفه هذا طريقاً أمام الشعوب المستضعفة في العالم، حتى أننا نرى أن كلّ المثقفين المسلمين وأصحاب الضمائر الحيّة في العالم الإسلامي يتابعون نفس الطريق الذي سار عليه هذا الشعب؛ لأنّه هو طريق السعادة والتوفيق، طريق النجاح والانعتاق من سيطرة القوى الاستكبارية.
وإنّنا نأسف لأنّ بعض الشعوب الإسلامية لم توفَّق لحدِّ الآن من السير في هذا الطريق؛ لأنّ الحكّام الفاسدين والخونة لم يسمحوا لها أن تجد طريقها الصحيح.
أسأل الله أن يجعل هذه الأيام من شهر ذي الحجة مباركة على جميع المسلمين ولا سيما على أبناء شعبنا العظيم والمؤمن والوفي.
كما آمل من الله أن يوفّقكم لاستثمار يوم عرفة على أحسن وجه من أجل التقرّب إلى الله بقلوبكم أكثر فأكثر.
د
إنّ مسألة تهذيب النفس وجلائها هي مسألة أساسية ومهمّة لكلّ واحد منّا في أيّ مكان وأيّة مسؤولية كان. فلا تستصغروا هذه الفرص ولا تحطّوا من قيمتها. فالتضرّع والتوسّل إلى الله والعلاقة الوطيدة مع الله هي أمور لها دورها الأساسي والفعّال في الحركة العظيم التي قام بها الشعب الإيراني، وفي عملية إعمار البلاد، والانتصار على الأعداء، والصمود بوجه القوى الاستكبارية، وفي الوصول إلى الأهداف الإسلامية المتسامية.
أمّا الوقت المناسب لهذا الدعاء والتضرّع والتوسّل فهو هذه الأيام المباركة والتي من أهمّها يوم عرفة..
أسأل الله أن يعمّكم برحمته وبركاته..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته