نسرين إدريس
اسم الأم: زينب حيدر
محل وتاريخ الولادة: بريتال 1 – 1- 1950
الوضع العائلي: متأهل وله 3 أولاد
رقم السجل: 26
محل وتاريخ الاستشهاد: بعلبك 10 - 4 – 1983
هي تلك الحياة الهادئة التي نشدها عباس صالح، وأقصى ما تمنّاه هو العيش الكريم. فالبيئة التقليدية التي احتضنته تنقلت بعيشها بين بيروت وبريتال، في زمان كان للتوافق والوفاق الوطن كله، فشربت روحه معاني السلم والهدوء في ربوع السلام والعيش المشترك. صغير والديه والمدلل الذي لا يُرفض له طلب، ظنّ أن الحياة سهلة كغدير ماء رقراق، فعاش أيامه على سجيتها، ولكن الدلال لم يجعل منه إنساناً متكلاً، بل تميزت شخصيته منذ صغره بالوعي والتدبير، وحسن العشرة ودماثة الأخلاق، ودفعه حبه الشديد للمغامرات إلى ترك الدراسة وخوض غمار العمل باكراً، وكأنه يريد أن يسابق الزمن ليثبت لنفسه أولاً ولأهله ثانياً أنه صار شاباً ولم يعد هناك من داعٍ للخوف عليه...
حمل عباس بين جنبيه روحاً شفافة وأجاد حَبْكَ شبكة علاقات اجتماعية واسعة، وعُرف بين الناس بالشجاعة والتضحية. وإذا كان عناده في سبيل تحقيق ما يصبو إليه وَضَعه في دائرة الخطر، فإن الخطر لم يعنِ له إلا مكاناً يستريح فيه قلبه الوثّاب، واندفاعه ومبادرته لخدمة الناس غير عابئ بالتعب أبرزا فيه مدى تحمّله للمسؤولية، وليس (طيشاً) كما ظن البعض. تنقل عباس في عدة مهن، آخرها سائق سيارة أجرة، وقد فتحت له هذه المهنة نوافذ اجتماعية وعرفته على الدنيا أكثر، فخَبُرَ الناس على أصنافهم، ولم يغيّر الانفتاح على الآخرين من انتمائه إلى البيئة المحافظة، فكان غيوراً محتشماً، جمع بين الحرية والالتزام في آن، مقيداً نفسه بضوابط لم يحدث نفسه يوماً بالتفلت منها.
كان عباس في الخامسة والعشرين من العمر عندما بدّلت الحياة لثامها، وتغيرت أوضاع البلد، وأدبر السلم أمام هجمة الحرب التي لم تترك زاوية إلا دمغتها ببصمتها السوداء، وأمام عينيه رأى ربوع وطنه تتحول إلى رماد، والخوف بسط كفيه على الطرقات، فقرر السفر إلى السعودية للعمل، تاركاً عروسه ووالديه في منزله الصغير في قريته بريتال، سعياً لتأمين حياة كريمة لهم. ما إن وصل عباس إلى السعودية حتى تبدد الحلم الذي ترك عائلته لأجله، ولم يستطع البقاء هناك على الرغم من إبرامه عقداً يلزمه البقاء لمدة سنة، فعاد إلى لبنان عبر الطريق البرية، عابراً حدود الدول سيراً على القدمين حتى وصل منزله، وسرعان ما عاد إلى عمله متنقلاً من منطقة إلى أخرى. لم تجذبه المنظمات أو الأحزاب للانضمام إلى صفوفها، في وقتٍ كان من الصعب جداً إيجاد شخص غير منتمٍ لجهة، ولم يستفزه حديث سياسي للتعبير عن رأيه وتوجهاته، ليس لأن ما كان يجري لا يعنيه، بل لبحثه الدائم عن شيء يغطي فراغاً كبيراً بسط ظلاله على روحه؛ شعور غامض حمل الصمت إليه وجعله يعيش مع نفسه في دائرة من التساؤلات التي لم يفصح لأحد عنها، غير أن عينيه وشت بها لمن عرفه وعاش معه.
في أواخر السبعينات سافر إلى فرنسا في رحلة سياحية، ومن على أحد أرصفة باريس، شاهد مسيرة حاشدة للمسلمين تحمل شعارات داعمة للثورة الإسلامية في إيران، وتركت تلك الأصوات الهادرة والداعية لحفظ الإمام الخميني قائد الثورة، صداها العميق في قلبه، وقد حمل شباط من عام 1979 الدفء إلى قلبه على الرغم من الثلوج المتراكمة، ووقع اسم "الخميني" لحناً حفظه في حنايا الروح... تغيرت نظرة عباس للحياة، ورآها بوابة مشرعة للدنيا الأزلية، فراح يقلّب أيامه على عجل لتعويض ما فاته من معرفة دينه الحنيف، وقد تحول الدين إلى أساسٍ ومنطلق صلبٍ لحياته بعد أن كان جزءاً مكملاً فيها.
ومع التغيرات اللافتة في شخصيته التي بادر إلى تغذيتها روحياً وثقافياً، فقضى أغلب أيامه صائماً لوجه اللَّه، وساعات فراغه قائماً بين يدي اللَّه، كانت الحرب الشرسة قد قطعت أوصال لبنان، وجعلته جزراً يتقاذفها مدّ النار وجزر الحواجز، والقوات الإسرائيلية تلوح باجتياح قريب لجميع الأراضي اللبنانية، والناس ترتقب ذلك وكأنها لا تملك الحق لردع ذلك الحلم الشيطاني سوى الانتظار والرضوخ للأمر الواقع. لكن عباس قرأ الواقع بمنظار مختلف، فهو وإن لم يكن يملك سوى الانتظار في بداية الأمر، غير أن الخنوع كان مستحيلاً عليه، فها هو الخطر الحقيقي يقترب ناحية شعبه، وهو رجل عشق المخاطر وعاشها فرسخت فيه الشجاعة والعزيمة اللتين مزجهما بتدين أصيل ووعي لافت... بدأ عباس يعرب عما يجول في خاطره أمام رفاقه وأهل بيته، وراح يلتقي بالعديد ممن يشاركه هواجسه، وبعض الأخوة المؤمنين الذين بادروا إلى عقد لقاءات يُناقش فيها وضع البلد الذي ترى فيه أمريكا مكاناً مناسباً لتدير عبره مخططاتها الهادفة لإيجاد الاستقرار والأمن للغدة السرطانية إسرائيل...
في عام 1981 تحوّل لبنان إلى كتلة من لهب ولم يكن أحد ليستطيع توقّع أي شيء سوى انفجار عنيف تقوم فيه القوات الصهيونية بقتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين المهجرين واللبنانيين، قبل أن تبسط سيادتها على أراضيه، وفي ذلك الوقت وصل وفد من الحرس الثوري إلى البقاع، وكان عباس أول المستقبلين له... "الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللَّه لخاصة أوليائه"؛ فسعى عباس ليكون من أولئك الخاصة، فالتحق بالدورات العسكرية والثقافية، وصار يعطي الدروس الثقافية المشبعة بالأفكار الثورية والسياسية في أحياء بعلبك الصغيرة، وباندفاعه الذي اشتهر به تنقل من مكان إلى آخر، لم يتعب ولم يهدأ، فإذا ما نظمت المسيرات شوهد في مقدماتها يردد الشعارات حتى يخبو صوته، وإذا أقيمت الاحتفالات علا صوته بالصلوات.
رزق عباس بثلاثة أولاد، وكان في السنة الأخيرة التي قضاها معهم شبه غائب عن المنزل فهو في عمله ليل نهار لحماية اللبنة الأولى للمقاومة الإسلامية، فإسرائيل التي اجتاحت الأراضي اللبنانية، نفثت بعملائها إلى الداخل، لخوض حرب المتفجرات، فتارة تزرع عبوة في سوق مليء بالناس، وأخرى قرب مسجد، والهدف ليس قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين وزعزعة الاستقرار وحسب، بل أيضاً من أجل تفريق الناس الداعمة والمؤيدة للمقاومة عنها، وبث الوهن في مشروعها الذي لم تستطع قمعه بكل جبروتها. كان عباس يحرس مقر "محبي الشهادة"، وهو من أولى المراكز التي انطلقت منها المقاومة الإسلامية عندما جاء أحد العملاء لزرع عبوة بالقرب من المقر لقتل عدد من المجاهدين، غير أن الشبهة التي أحاطت به إثر التدابير الأمنية التي نفذها المجاهدون، دفعت بالعملاء إلى تفجير السيارة بمن فيها ما أدى إلى استشهاد عباس وإصابة مقاوم آخر...
وصلت سيارة الإسعاف به إلى المستشفى وبه رمق من الحياة، وهناك فتح عينيه بصعوبة وقال لرفاقه الذين تجمعوا حوله: "لا تنسوا ذكر اللَّه... اللَّه أكبر". استشهد عباس... وكان تشييعه عرساً بكل ما للكلمة من معنى، فالجميع تبادلوا التهاني، وهنأوا العائلة على وسام الشرف الذي منّ اللَّه به عليها. وسار الموكب الضخم طريقاً طويلاً في الوداع الأخير للمجاهد الذي فجر بدمه ثورة المستضعفين... بعد أقل من شهر على استشهاد عباس صالح، ألقت المقاومة الإسلامية القبض على شبكة من العملاء قامت بتسليمهم إلى قوى الأمن الداخلي، وسرعان ما حلقت الطائرات الإسرائيلية فوق المخفر المحتجزين فيه مستهدفة إياه بصاروخين كانا كفيلين بقتل العملاء الذين جندتهم لصالحها...
"لا تنسوا ذكر اللَّه... اللَّه أكبر..." وصية حفظها المجاهدون من شهيد أخلص عمله للَّه، ودعا ربه في الليالي الباكيات أن يرزقه شهادة مباركة.