هناء نور الدين
ذكر القرآن نماذج نسائية كثيرة وبرّزها لتكون أمثلة عامة للمجتمع وليست استثناء على عمل مجموعة من الأفراد ونستدل من خلالها على أن الإنسان إذا نوى فعلاً أن يصل إلى اللَّه تعالى مزَّق الحجب التي تمنعه من الوصول إلى الحق تبارك وتعالى.
*امرأة فرعون ومريم
يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ (التحريم:11-12). ماذا فعلت امرأة فرعون حتى ارتفعت عند ربها مقاماً علياً، وقد جعلها اللَّه تعالى مثالاً وقدوة للرجال والنساء في الجهاد والثبات على خطِّ الدعوة وتبليغها؟ إنها الإنسانة القوية في إيمانها، الغنية بمواقفها ومبادئها. رفضت كل أنواع الظلم والاستبداد وعبودية الإنسان للإنسان الذي مارسه زوجها فرعون وزبانيته. تخلّت عن جميع مظاهر الترف والجاه وموقعها الاجتماعي المتميز لتلتزم بدين اللَّه وتوحده وتعبده بصفاء قلب ونقاء سريرة ولتحرر المجتمع الذي حولها من طاغوت الشرك، لذلك توجهت إلى ربها قائلة: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ..﴾ وقد خلد القرآن ذكراها لتكون القدوة والنموذج... والمرأة الثانية التي اصطفاها اللَّه تعالى وضربها مثلاً للذين آمنوا رجالاً ونساءاً مريم ابنة عمران التي امتلأت روحها بكلمة اللَّه... ونبض قلبها بالإيمان، فارتفعت إلى عرش الطاعة والأمل، لتكون رمزاً للعفة والفضيلة والطهارة وكانت من القانتات العابدات إلى أن ارتقت مكاناً علياً، فخاطبتها ملائكة الرحمن خطاباً مباشراً ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِين﴾ (آل عمران:42-43).
واستمرت مريم عليه السلام في عبادتها وتبتلها حتى حملت إليها الملائكة بشارة أخرى وهي في محراب عبادتها ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران:45-46). لقد صدَّقت مريم عليها السلام كلمات ربها... فأعطاها اللَّه تعالى قوة مكنتها من مواجهة المجتمع الذي اتهمها بارتكاب الفاحشة وأنقذها اللَّه، فكانت المعجزة كلام عيسى عليه السلام في المهد صبياً... بعد ذكر هذين النموذجين اللذين اشتركا في أمر جامع بينهما وهو التقوى والعفة والفضيلة والحبُّ الإلهي نمضي مع القصص القرآني لنلتقي بنموذج ثالث...
*ابنتا شعيب عليه السلام
النموذج النسائي الثالث الذي ذكره القرآن الكريم: ابنتا النبي شعيب عليه السلام... كانتا مثالاً للمرأة العاملة المؤمنة، يقول تعالى في قصة النبي موسى عليه السلام: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾ (القصص:23-25). هناك حدث جليل وقع في طيات هذه القصة التاريخية يتعلق بنبوة النبي موسى عليه السلام وما يخبئ له المستقبل... لن ندخل في تفاصيل القصة المذكورة وإنما نتوقف عند ابنتي شعيب عليه السلام وما جرى بينهما وبين نبي اللَّه موسى عليه السلام. من خلال السرد القرآني لهذه الآيات نستنتج أن ابنتي شعيب عليه السلام كانتا تعملان وتتوليان رعاية أغنام أبيهما وما يستلزم الرعي والسقاية عادة من جهد مضنٍ، ونستشف من خلال ذلك أن ليس لهما أخ أو أحد يقضي لهما حوائجهما... وعندما تقدم موسى عليه السلام نحوهما خاطبهما بكل أدب واحترام "ما خطبكما" قالتا: "لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير". إن ذلك يكشف عن طبيعة وظروف عملهما، فالأب طاعن في السن لا يقوى على العمل، عند ذلك سارع بروحه العالية وتقدم لمساعدتهما ثم انصرف راجعاً إلى ظل شجرة وارفة ليستريح من عناء السفر، انطلق لسانه معبراً عن حاله وغربته وفقره "ربِّ إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير..." وبينما هو غارق في تأملاته ودعائه "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء..." كيف أتت الفتاة لخطاب نبي اللَّه موسى عليه السلام؟ أقبلت في حياء وخفر وأدب، لأن الحياء والأدب والرزانة في القول أغلى شيء تملكه الفتاة في حديثها مع الرجال لذلك تعتبر نموذجاً للفتاة المؤمنة. لقد تأدبت في خطابها مع نبي اللَّه موسى عليه السلام خير تأدّب فقالت: "إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا..." لقد حددت ماذا يريد والدها، وأوجزت في الكلام، فلم تطلق الكلام في العموم. ولبى موسى دعوة والدها وسار معها حتى وصل إلى الشيخ الكبير وبعد أن شرح حاله وسرد قصته تقدمت إحدى الفتاتين وقالت بكل احترام: "يا أبتِ استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين" عندها قال لها والدها (كما أجمع عليه عدد من المفسرين) وما يدريك ما قوته وما أمانته؟ قالت: أما قوته فما رأيت منه في الدلو حيث سقى لنا وأما أمانته فإنه نظر إليَّ حين أقبلتُ إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوَّب رأسه فلم يرفعه حتى بلَّغته رسالتك ثم قال لي: امشي خلفي وانعتي لي الطريق. فلم يفعل هذا الأمر إلاّ وهو أمين. وهذه دروس للرجال والنساء عامة في سلوك طريق العفَّة والحياة لسد منافذ الشيطان وأصحابها هم أهل التقوى والمغفرة. وكانت في حوارها مع أبيها قد وضعت منهجاً للرجال والنساء في أسس علاقة النسب والزواج والمصاهرة وهما مبدآن اثنان: القوة والأمانة حيث هما مبدآن لاستئجار موسى ويمكن أن يصلحا مبدأين في اختيار الزوج ضمن مجموعة مبادئ.
إذاً، لقد ربى النبي شعيب عليه السلام ابنتيه وأحسن أدبهما، فكانتا مثالاً للمرأة العاملة المؤمنة لذلك وإكراماً لهما ذكرهما القرآن الكريم وأشاد بهما، وجعلهما مثلاً تحتذيه نساؤنا ليرتقين فعلاً، وليسمون بالإيمان والعمل، وليصلن إلى أعلى مقامات القرب من اللَّه تعالى وهذا يحتاج إلى إرادة وسموِّ نفس وتقديس ذات. لقد بيَّن اللَّه تعالى لنا أن الهدف من عرض هذه النماذج القرآنية هو التربية والتعليم والقاسم المشترك الذي يوجد بينهما الحبُّ الإلهي، الذي إذا استقرَّ في قلب عبد مؤمن تحول إلى شعل نورانية وهّاجة تحرق أصنام الكفر والشرك والوثنية، وتشيد على أطلالها جسراً للوصول إلى الكمال المطلق... ويكتمل هذا الكمال ويرتفع مع الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام التي مثلت الكمال الإنساني بأبهى صوره. وأخيراً... ما أحوجكِ يا أختاه إلى أن تهتدي بهدي القرآن... وتسلكي درب الفضيلة والعفاف في عصر تلاشت فيه القيم! وما أحوجنا إلى أن نقتدي وننظر في قصص نساء القرآن المؤمنات اللاتي تركن بصماتهن واضحة على جبين الزمن! فهلاَّ لبينا النداء!