ن.إ.
*وكان للحياة سميراً
قلة من الناس من يحملُ بين جنبيه الحياة بكل معانيها، فأغلبهم يرزح تحت وطأة عنادها ومآسيها. ونادرون جداً من يوقظون بحضورهم الحياة بين الناس، حتى لكأنهم يمدون جسوراً إليهم، لينتشلوهم إلى عالمٍ لا شيء فيه سوى الحياة، وهكذا كان سمير ولا يزال؛ في المواقع، والجبال الصعبة، وبطون الأودية، حتى في محراب المسجد، ينضحُ حياةً تدفعه لسفر مستمر إلى الله.. كان قيادياً منذ صغره، ونظرته الثاقبة في رؤيته وتحليله للواقع جذبت الناسَ من حوله، وخصوصاً الفتية الذين رأوا فيه نموذجاً جديداً في جيل ما قبل الثورة الإسلامية، فسعى في فترات إجازته القصيرة من المدرسة إلى تأسيس النواة الأولى للكشاف الإسلامي في القرى، واستقطب بأخلاقه العالية وتدينه اللافت الكثيرين الذين تحولوا فيما بعد إلى تلامذة مواظبين على حضور دروسه الثقافية أولاً، والعسكرية فيما بعد... انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، ومع رفاقٍ تسعةٍ تعاهدوا في مسجد الأوزاعي على: "الإيمان والهجرة في سبيل الله" خطا "جواد" خطواته الأولى في طريق الجهاد..
*الأسد المقدام
البندقية هي الحبُّ الأول والأخير لقلب سمير، لكنّ هذا الحب لم يبعده عن الساحة الثقافية، فكان يقوم بجولات في المناطق المختلفة؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو الناس لعبادة الله الواحد القهار.. عام 1982 حزم سمير حقائبه على عجلٍ إلى الجمهورية الإسلامية لتطوير مهاراته العسكرية، ولكنه اختصر مهمته بعد أسبوع واحد ليعود على اثر اجتياح العدو الإسرائيلي للبنان، ولم تسع الدنيا فرحته عندما سمع أن إخوانه المتصدين على محور خلدة وكلية العلوم أوقعوا الخسائر الفادحة بتلك القوة العاتية، وأن الحاج أبا حسن سلامة غنم ملالة.. وصل إليهم ليشاركهم القتال دون أن يمنح نفسه لحظة راحة واحدة، وعرف أن آرييل شارون وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك كان يراقب مجريات التصدي من ملالة على تلٍّ في مطار بيروت الدولي، فاقترح أن يقوم ومجاهدَين (الشهيدين أحمد شمص ومحمد يوسف) بعمل استشهادي على الملالة، فوافق الجميع على الفكرة، وانطلق يحدوه الشوق، ولكن الملالة سرعان ما انسحبت، تاركة خلفها الدخان الأسود، ودموع سمير التي رآها رفاقه لأول مرة (ولم تكن الأخيرة)؛ فسمير الأسد المقدام، ومنبع الشجاعة يبكي كطفلٍ صغير، لأنه لم يوفق إلى الشهادة!
*صلة وصل بين المجاهدين
عام 1984، بدأت المقاومة الإسلامية بتنظيم صفوفها وكان "الحاج جواد"، من أبرز القادة المخططين والمنفذين للعمليات في مختلف القرى المحتلة.. تحولت المغاور إلى بيته الدائم، وصار الجنوب بكل تضاريسه حتى الحدود مع فلسطين المحتلة خريطة يحفظها عن ظهر قلب، فمن قرية إلى أخرى، ومن المحاور المحاذية للشريط الحدودي إلى الداخل المحتل، يتنقل باطمئنان، يوجه الاخوة ويتابع أمورهم العسكرية، مشكلاً أبرز صلة وصل بين المجاهدين. كان الحاج جواد القائدَ المجاهد، المشارك في أغلب العمليات، ورفض أن يتسلم أية مسؤولية تبعده عن العمل العسكري التنفيذي، فيخطط وينفذ، وطالما تشاجر وبكى وعاتب بعض المسؤولين من رفاقه الذين كانوا يرفضون قيامه ببعض الأعمال الدقيقة والخطرة، حفاظاً عليه، لأهمية العمل الذي يقوم به. ولكنه ظلّ كما هو، يسد ثغرة هنا، ويضع نفسه بديلاً عن أي مجاهد تضطره الظروف للتخلف عن عمل هناك، ويستطلع العمليات التي سينفذها بنفسه. وعُرف الحاج جواد بدقة وصفه للأماكن خلال الاستطلاع، ما سهّل لمجموعات المقاومة التنقل بسرعة في الظلام الدامس، والاقتحام بسهولة لمعرفتهم المسبقة بالطبيعة الهندسية للموقع ولحظات التبديل للحرس.
*سيد التخطيط والتنفيذ
بدأ الحاج جواد يضيق ذرعاً بمحاولة الأخوة إبعاده عن مناطق الخطر، وهو يكرر لهم "كلما كان الإنسان أقرب إلى الشريط كان أقرب إلى الشهادة"، وعلى الرغم من أنه أحد أبرز قياديي المقاومة، فإن ذلك لم يمنعه من وضع اسمه في لائحة الاستشهاديين، وظل يلح عليهم قبول تنفيذه لعملية استشهادية تختزل زمن انتظاره للشهادة، ولكن رفض القيادة الدائم جعله يفقد صوابه، فصار يهدد ويتوعد، وهم يصرون على موقفهم الرافض، وما زاد الطين بلّة معرفته بأن اسمه كان مطروحاً للعملية الاستشهادية الأولى التي نفذها "أحمد قصير"، ولكن القيادة لم تقبل لحاجة المقاومة إلى معرفته الواسعة في الأمور العسكرية، وفطنته وسرعة بديهته في أرض المعركة، فهو سيد التخطيط والتنفيذ معاً. لم تعد الكمائن والمواجهات المباشرة مع العدو الإسرائيلي، والتراشق بين المواقع، تشفي غليل الحاج جواد، لقد أراد أكثر من ذلك، وسعى لتنفيذ حلمه الذي بدأ منذ أن لمح أبا حسن سلامة على الدبابة في خلدة، فأراد تحقيقه بسحب أخرى من قلب المواقع الرابضة على الجبال الشامخة والمدشمة، في وقتٍ كانت قيادة المقاومة تدرس إمكانية البدء بتنفيذ عمليات نوعية، وطبعاً كان للمسات الحاج جواد الأثر البارز في تنفيذها بدقة. خطط الحاج جواد ونفذ أولى العمليات النوعية التي سببت الهلع والإرباك للعدو الصهيوني الذي لم يتخيل مدى تطور الذهنية العسكرية للمقاومين؛ فمن "تلة الحقبان"، إلى "برعشيت" و"بئر كلاب"، و"علي الطاهر"، جبال محصنة حلّق فوقها "جواد" نسراً لا يتعبُ من معانقة السماء..
قاد الحاج جواد مجموعة المقاومين في العملية النوعية الأولى "عملية كونين" التي قتل فيها عدد كبير من الإسرائيليين وحاول خلالها الحاج جواد أسر جندي على قيد الحياة، ولكنه لم يُوفق إلى ذلك.. ونبتَ حلم آخر بمحاذاة جلب "الميركافا": "أسر جنود إسرائيليين" تستعملهم المقاومة كورقة ضغط للإفراج عن المجاهدين الأسرى، فبدأ يخطط لعملية نوعية تحقق له حلمه. وبعد أكثر من شهرين استطلع فيها الموقع، قام بتنفيذ ما عرف ب" عملية الأسيرين" بنجاحٍ كبير، وجنّ جنون إسرائيل التي بادرت بمدافعها وطائراتها باجتياحٍ استمر ستة أيام، كان خلالها الحاج جواد يتصدى له بشجاعةٍ فائقة.. أصبح بعد ذلك الرقم الأصعب في تاريخ المقاومة، فهو مخطط وقائد ومنفذ العمليات النوعية التي صنعت تاريخاً جديداً للبنان، وصار أسر "الميركافا" كنزهة لتلامذة الحاج جواد، وأسهل بكثير من نزهة "غولدا مائير" في لبنان. ولكن ذلك لم يبعد الحاج جواد عن المشاكسة الدائمة، فبينما يجب أن يكون في القوة المساندة للقوة المقتحمة، يتفاجأ به المجاهدون أثناء اقتحام الموقع أنه أمامهم، وأثناء العودة ينتظرونه للخروج! وقد رأى العالم أجمع الحاج جواد يشربُ من برميل ماء في موقع علي الطاهر باطمئنان وروية، ورفاقه يتحركون بحرية داخله. وما ميّز الحاج جواد القائد، هو التزامه ومبادرته لتنفيذ أي أمر يصدره قبل العناصر الذين تحت أمرته، بل ويبادر لخدمتهم والتخفيف عنهم، ولطالما كانت أخلاقه النبيلة حافزاً لتغيير الكثير من الأشخاص، فهو بالحق مدرسةٌ خرّجت العديد من المجاهدين البواسل..
*آخر الدرب
ملأ الحاج جواد الجنوب بصهيل ثورته، واحترمه العدو قبل الصديق، وشهد له القاصي والداني بشجاعته وبسالته. وهو الذي لم يملك من الدنيا سوى حقيبة ثيابه العسكرية وسلاحه. ولكم تعبَ قلبه من فراق أحبته الذين تواعد معهم في مسجد الأوزاعي على الشهادة. وكانت عملية "علي الطاهر" التي أصر خلالها الحاج جواد على أسر دبابة "ميركافا"، وكالعادة كان أول الداخلين إلى الموقع، وأثناء الانسحاب تحت غزارة النيران الإسرائيلية، في تلك اللحظة رأى مجاهديَن جريحين، فقفز فوق الأسلاك الشائكة غير عابئ بالنيران الملتهبة، وحمل الأول على كتفه والثاني تحت ذراعه، ولكن لم يسر في طريق العودة، بل بقي مكانه. مبتسماً هوى صوب الأرض وصهل لآخر مرة ليرتاح لأول مرة، وأسر العدو الصهيوني جثته، التي تمّت استعادتها مع عدد من رفات الشهداء الأبرار والأسرى الأحياء خلال تبادل بجثة "الأسيرين" اللذين أسرهما الحاج "جواد".