نسرين إدريس
اسم الأم : لطيفة برّو
محل وتاريخ الولادة: حدث بعلبك؛ 20/5/1973م.
الوضع العائلي: خاطب
مكان وتاريخ الاستشهاد: طلوسة-مرجعيون؛ 8/9/1994م.
وردة في جنّة غنّاء، فاحت عطراً استقاه العشق الخالص من شوق للقاء وجه الحبيب، فسجد الأريج في محراب الرصاص على ترابٍ مخضّبٍ بالنجيع، فكان الوصال.. هوذا إبراهيم قد أسكن روحه في وادٍ غير ذي زرع، فسعت بين الأودية والجبال حتى انبجسَ من بين كفيه زمزم حجه العظيم. مهاجرٌ حزم حقائبه باكراً صوب الله، وكيف لا، وهو الذي بدأ حياته في بيتٍ متدين وسط مجتمع مقاوم، فضخت تعاليمُ محيطه في نفسه الأصالة، وشرّع نوافذ قلبه لشمس الإمام الخميني العظيم قدس سره التي سطعت بداخله من خلال دروسٍ تلقاها على أيدي عاشقي الإمام في منطقة الأوزاعي التي ربّت العديد من المجاهدين والقادة والشهداء في المقاومة الإسلامية.
لقد رأى ابراهيم بأم عينيه الثلة التي هزمت العدو الصهيوني عام 1982 عند مثلث خلدة، ولم ينسَ للحظة واحدة تلك الليالي والأيام الطويلة التي لم يغمض فيها لأحد جفن، وهم ينتظرون الأبناء والأشقاء والأزواج الذين حملوا عتادهم وأبوا العودة إلا منتصرين. كان الشيخ الشهيد أسعد برّو من المشاركين في المواجهة، ولم يفت إبراهيم البقاء بالقرب منه من أجل الاستماع إلى تلك التفاصيل المثيرة لحربٍ غير متكافئة انهزمت فيها القوى العظمى، تلك اللحظات المضيئة بقيت في ذاكرة إبراهيم نوراً لعقله وقلبه، في أيام واكبتها التطورات السياسية والعسكرية التي كان يتداولها الشبّان المجاهدون من أهل المنطقة واخوته في المنزل، فوعى على دعائم أساسيّة للمقاومة في منزلهم الصغير. وبين ثمانية شبّان كان أبرزهم المعلم الكبير الشيخ أسعد، وجد إبراهيم ملاذ روحه، وأبصر غده بعين القلب دون زيغٍ أو وجل..
في الأحياء الضيقة للأوزاعي التي لم تتعب من شقاوته أثناء لعبه ورفاقه بأسلحتهم الخشبية مقلدين بذلك حرب فصائل المقاومة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني... وأمام ناظري الشيخ أسعد الذي أولاه عناية خاصة واهتماماً ساعداه في تخطي الكثير من شؤون الدنيا، كبر إبراهيم وبدأ خطواته الأولى في طريق الشهادة.. لم يكن الشيخ اسعد بالنسبة إليه وإلى الجميع مُدرساً للعلوم الدينية فحسب، بل كان مدرسة في كل سكنات حياته، لذا حذا ابراهيم حذوه، فهو في الصيف يعمل لأجل تأمين مصروف الدراسة، ويساعد والدته في شؤون المنزل، ويرافق اخوته إلى المسجد، ويشارك في جميع المناسبات الدينية، وينظر من خلف ستارة نافذة منزلهم إلى المجاهدين العابرين في الليل شاكين سلاحهم كأنها سلالٌ مليئة بجنى أحلام العمر، فيغمضُ عينيه على أمل غدٍ يغادر فيه مكانه خلف النافذة، ليركض في تلك الطريق التي فتحت أذرعها لعاشقي الجهاد، في ظل أحداث متسارعة وحرب ضروس تدميرية شنها العدو الصهيوني بطائراته من جهة، ومن جهة أخرى بالسيارات المفخخة التي تستهدف المدنيين لزعزعة الاستقرار الأمني في جميع المناطق اللبنانية.
عام 1986 لاحت بدايات الربيع على وجه إبراهيم، ومع تفتح الزهور الأولى، تعرض لإصابات خطيرة في أنحاء جسده جراء انفجار سيارة ملغومة في طريق المطار، ما استدعى مكوثه في المستشفى شهوراً، تقلّب خلالها على سرير الألم بصبرٍ واحتساب، وإلى جانبه والدته تهدئ من وجع جراحاته باليدين اللتين ربتا المجاهدين والشهداء. كانت لمساتها رياحين تخفف من صقيع وجعه طوال تلك المدة التي شكّلت مفصلاً هاماً في حياة كلّ منهما، فإبراهيم شحذ همته من حطام أيامه، ليخرج من زوايا الجراحات مارداً لا يهاب إلا وجه الله.. أما والدته، فكانت تلك الأيام الصعبة والليالي التي نامت فيها على البلاط البارد بالقرب من سريره، بالنسبة إليها مخاضاً جديداً لولادة إبراهيم الثانية، لقد رأته طفلاً يحتاج إلى عنايتها ورعايتها وحنانها، فراحت تقوم بمساعدته في كل شيء حتى في أداء صلاته، ومن لحظات يخنق فيها البكاء جيد الصبر، إلى لحظات الضحك والابتسام، تعلّق قلبها بإبراهيم حتى كأنه الهواء الذي تتنشقه لتحيا.
خرج إبراهيم من المستشفى ولم يلبث في البيت إلا وقتًا قصيرًا حزم خلاله أمتعته وانطلق ليلتحق بدورة عسكرية.. لم تستطع أمه البقاء في البيت دونه، فراحت تبحث عنه في البقاع تارة، وأخرى في الجنوب ، وهي تقلّب أيامها الملتهبة بين كفيها الموجعتين بلا جدوى ، حتى أبلغها صديق إبراهيم (الشهيد) علي المستراح أن إبراهيم سيأتي قريباً، وأنه في منطقة إقليم التفاح. ما إن سمعت اسم المكان حتى صعدت في سيارة وتوجهت إلى الجنوب غير عابئة بالحواجز والصعوبات، فهمها الوحيد الوصول إلى إبراهيم ورؤيته وضمه إلى صدرها لتحميه من كل شيء. لم تعرف وهي تحدّق في الطريق سبب هذا الاندفاع الشديد، فهي لطالما رأت أولادها وهم يخرجون والسلاح على أكتافهم ليقاتلوا العدو الصهيوني، واكتفت برفع يديها إلى السماء والدعاء لهم، ولكن خوفها على إبراهيم كان أكبر من كل شيء.. وأخيراً وصلت إلى حيث استقبلها رفاق إبراهيم، وأصرت على البقاء حتى ترى ولدها، وجلست بانتظاره حابسة الدمع،حتى إذا ما أطل بوجهه الجميل، وبسمته التي لم تستطع أن تخفي آثار الحزن الشديد المرتسم على وجهه، ركضت ناحيته وأخذته في حضنها، وأصرت عليه أن يرافقها إلى المنزل، على الرغم من أن الدورة ستنتهي بعد يومين.
رافق إبراهيم والدته على مضض إرضاءاً لها، وطوال الطريق، لم تتعب نظراتها من التحديق به، وتسربت إلى قلبها إشارات ندم وقد لمحت بين كلامه المتقطع صمتًا يحمله إلى مكان بعيد. وصلا إلى بيروت، ووقفت أمامه فلم تجد منه سوى جسد قد فارقته الروح، استأذنها وذهب إلى المسجد، فأدركت في تلك اللحظة أنها مهما فعلتْ فلن تستطيع ثنيه عما عزم القيام به، فقد اختار طريقه، طريق الإمام الحسين عليه السلام التي مشى فيها الشيخ اسعد والعديد من المجاهدين.. قام الشيخ اسعد برو بعملية إستشهادية بطولية، تاركاً وصيةً وحيدة لأهله وعائلته "السير في طريق الجهاد"، فكانت شهادة الشيخ هي الدرس الأخير لإبراهيم، الذي افتقده جداً، فالشيخ لم يكن ليطلب أي شيء من أحد إلا منه، لقد كان أخاه وتلميذه وصديقه، وها هو الآن بلا ملامح، هائم على وجهه يتخبط صبره على الشوق الجارف في عينيه بين همس الرصاصة وزناد البندقية.. لم تصدق والدته نفسها حينما أخبرها أنه قرر عقد قرانه، وارتاح بالها وهي تراه يخرج وعروسه ليهيئا بيت الزوجية، فقد ظنّت أنه سيخفف قليلاً من (مشاويره) إلى الجنوب، وراحت تسعى لتأمين عملٍ له، محاولة إقناعه بأن الوظيفة أمان للمرء وبيته في ظل الوضع الاقتصادي المتردي.. وإبراهيم، بهدوئه، كان يخففُ عنها، ويذكرها أن ما يقوم به هو نتاج تربيتها الصالحة له، وكيف لا يكون مقاوماً وقد ربته المرأة نفسها التي ربّت الشيخ أسعد برو!
حزمت الأم حقيبتها وسافرت في زيارة لمدة شهر لولدها في أمريكا، ممنية نفسها أنها حين ستعود ستزف ابراهيم عريساً، وستنتظر بفارغ الصبر أن تحمل أطفاله بين ذراعيها، ولكن شيئاً ما كان يحدث قلبها جعلها دائمةَ القلق، فهي كلما فكرت فيه أو تحدثت عنه رأت ملامح وجهه عندما عادت به من الجنوب، تلك الملامح الحزينة التي جعلتها تستغفر الله كلما حدثتها نفسها بأنها قدمت جميع أولادها مجاهدين، فلماذا إبراهيم لا يبقى بالقرب منها..! جاءت كل العائلة لاستقبالها في مطار بيروت الدولي، وعلى الرغم من جمعهم الكبير، فإن أول من سألت عنه إبراهيم، لقد ساءها كثيراً أن لا يكون بينهم، فأخبروها بأنه جريح في المستشفى، لم تتحمل الخبر، وانهارت بعد ارتفاع نسبة السكري لديها ما اضطرهم إلى نقلها إلى المستشفى، وهناك حيث بقيت في الغرفة وحيدة، أغمضت عينيها على دمعة ساخنة، وتمنّت أن تفتح عينيها فتجد إبراهيم أمامها، أو بالقرب منها، يراعيها كما كانت تفعل أيام إصابته، ولكن عندما فتحت عينها ونظرت إلى الحائط، رأت وجهه المبتسم يغيب تدريجياً، فنادت أولادها وأخبرتهم أنها على علم أن إبراهيم استشهد، وهي تحمد الله على انه نال ما سعى لأجله، وتغبطه على لقائه بالشيخ اسعد..
اليوم، تبتسم الأم وهي تخبر بفخرٍ عن ولدها الحبيب إبراهيم الذي استشهد أثناء مواجهة بطولية مع كوماندوس إسرائيلي في منطقة طلوسة، وتفخرُ بأنه قاتلهم ببسالة حتى آخر طلقة رصاص، وزفّ عريساً إلى جنان الله... غادر إبراهيم الدنيا التي لم تكن يوماً برداً وسلاماً على قلبه، ويمم وجهه صوب الله، حنيفاً مسلماً، وشهيداً...