نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: عائدة حسن يوسف.
محلّ الولادة وتاريخها: السماعيّة 1/1/1994م.
رقم القيد: 2.
الوضع الاجتماعيّ: خاطب.
مكان الاستشهاد وتاريخه: تلّ سحل 18/2/2014م.
وجاؤوا إليه من كلّ حدبٍ، كلٌّ يحمل إليه ذكرى من الحبيب الذي مضى على حين غرّة. جلسوا بين يديه وناولوه قبعة تفوح منها رائحةُ شعره الذي كان يداعبه بأصابعه، اللفحة وفيها أنفاسه. حقيبته وأشياؤه، وحدها ثيابه العسكريّة رافقته إلى الضريح. قالوا له، إنّهم رأوا غمامةً بيضاء كبيرة تسقطُ على موسى أثناء الهجوم، فظنّوا أنّ جسده تناثر من أثر القذيفة، ولكن مع اقترابهم منه وجدوه كملاك يغفو فوق وسادة حمراء.
•الحضن الدافئ
رفع الأبُ عينيه الغارقتين بالدموع، وسألهم: "كيف كان موسى في المعركة؟". كان همّه الوحيد أن يعرف كيف أبلى ابنه في الحرب، ذلك الابن الذي كان يُجلسه بين ذراعيه ويُعلّمه اللفظ والكلام: "قلْ مصطفى، اُنظر إلى حركة شفتَيّ يا موسى"، فيجيبه بثلاثة أحرف: "تفى"، ويسكتْ.. فيضمّه إلى صدره، فيما أمّه تنظر إليه مبتسمة وبريقُ الأمل يشعُ في عينيها: "ستقولها ذات يوم يا حبيبي".
•طفولة حزينة
كان موسى يعاني من مشاكل في النطق، الأمر الذي سبّب له الكثير من المواقف المحرجة، لذلك لم تكن طفولته تُشبهُ طفولة غيره من الفتية الذين يلعبون في الحيّ، فيما هو يراقبهم بهدوء من على الشرفة، وأمّه بالقرب منه تحثّه على الالتحاق بهم عوض البقاء بالقرب منها، واللحاق بها كيفما تلفّتت وكأنّها حبل نجاته، ولكنّ هذا الهدوء سرعان ما تبخّره حرارة ضحكاته مع إخوته وهم يلعبون، حتّى يخيّم الليل، فيغفو والابتسامة تعلو شفتيَه.
•سند والده
كان موسى يرافق والده إلى البستان حيث يعمل ليساعده في الريّ ليلاً، وفي كثير من الأحيان يطلب إلى أبيه النوم ليكمل عنه العمل، مستأنساً بضوء القمر، وسكينة الليل التي تشبه روحه المبحرة في التفكّر الذي يجري كجريان الماء البارد في أقنية الريّ، فيتشبّعُ قلبه من تلك الوحدة المؤنسة، والتي تجلبب بها غالباً، وهو يراقبُ الناس وأحوالهم، فينأى عمّن يمكن أن يعكّر صفو سكينته التي تجلّت في صفحات وجهه على الرغم من صعوبات الحياة التي مرّ بها.
•"فعلي كبير في الحرب"
التحق موسى في صغره بكشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وتطلّع إلى أن يكبر ويصبح من المقاومين الذين اختزنت ذاكرته بعضاً من مشاهدات بطولاتهم في صغره. ذلك الجيل من الأبطال الذين هزموا الصهاينة وطردوهم من لبنان. غير أنّ فرصة ما حامت حوله، وقرّر اصطيادها في حرب تمّوز من العام 2006م، لكنّها ضاعت عندما خرج وإخوته من القرية، حينها لام تلك الظروف وقال: "إن كنتُ صغيراً في السنّ، فإنّ فعلي في الحرب كبير".
•امتحانات الدنيا
كان لا بدّ له من الانطلاق إلى العمل، وقد كان ذلك بموازاة انتسابه إلى التعبئة العامّة، التي بنى فيها ثقافته الجهاديّة وروحيّته العالية، ولكنّه لم يوفّق إلى عملٍ يستقرّ فيه، بسبب عدم انسجامه وأجواء التجارة والأخذ والردّ، وكثيراً ما اشتكى لوالديه ما يحمله بعض الناس من سوء للآخرين في دنيا فانية.
•قلب الوالدين
عندما كانت أمّه حاملاً به، داهمها شعور غريب بأنّها تحملُ صبيّاً، فطلبت إلى جارتها أن تستفتح بالقرآن الكريم لتنتقي اسماً لولدها، فكانت الآيات عن نبيّ الله موسى عليه السلام.
حظي موسى باهتمام لافت منذ صغره، إذ كانت أمّه تضعه في صندوق بلاستيكي مع ألعابه بالقرب منها وهي تعدّ الخبز، فتحسدها الجارات عليه لهدوئه. وظلّ هذا الاهتمام يرافقه إلى مرحلة الشباب أيضاً، وخاصّة عندما أبلغ والديه بقرار الالتحاق بصفوف المقاومة، وبدأ غيابه في الدورات العسكريّة، فزادت الخشية عليه.
•الحرم المقدّس
كلّما عاد موسى من غياب أخذته أمّه بين ذراعيها. وعندما يحين موعد رحيله، تحوطه بالدعاء والأحراز، وتتذكّره طفلاً يلومها على عدم السماح له بالمشاركة في الحرب. أمّا الآن، فالأمر قد اختلف، وقد عوّضه الله خيراً عمّا فاته من الجهاد، بالدفاع عن الحرم المقدّس للسيّدة زينب عليها السلام: "إنّه الحرم!".
•لبسة واحدة
في زيارته الأخيرة، انشغلت أمّه بتحضير احتياجات عقد قرانه، فاشترت له ثياباً وأغراضاً، وعندما طلبت إليه قياسها، أجابها بأنّها "مجرّد لبسة واحدة"، وسيأخذها أخوه مصطفى! أزعجها قوله الذي كان له صدىً في قلبها، سرعان ما كان حقيقة واقعة. "كانت معركة صعبة"، قالوا للأب، وأمُّه تسمعهم من وراء حجاب: "كان موسى جائعاً ويشعر بالظمأ والبرد الشديد"، فذرف الأب دمعة ساخنة وقال: "هكذا رأيته في حلمي تلك الليلة.. في الحالة ذاتها"، ثمّ مسح دمعته واستعاد رباطة جأشه وسأل للمرّة الثانية: "وكيف كان في المعركة؟"، فأجابوه: "كان شجاعاً ومبادراً، وكلّما قتل تكفيريّاً، ملأ صوت تهليله وتكبيره الأرجاء، وكلّما طلبنا إليه التراجع، تقدّم. وعلى الرغم من أنّ تحرير تلّ سحل كان مهمّة صعبة، إلّا أنّ الله قد وفّقنا لذلك من خلال شباب مثل موسى. وعندما رموا قذيفةً ناحيته، ظننّا أنّنا لن نجد جثماناً له!".
•المكالمة الفائتة
شدّت الأمّ على قبضتها وخنقتْ دمعتها. وضعت قبضتها على قلبها المحترق من آخر مكالمة فائتة له، وكان موسى قد استأذن مسؤوله ليتّصل بها ويسمع صوتها للمرّة الأخيرة، ولكنّ رنين هاتفها لم يصل إلى مسامعها في الغرفة الثانية، ولكنّها في تلك اللحظة، أغمضت عينيها وتراءى لها صغيرها موسى راكضاً فاتحاً ذراعيه معلناً أوّل انتصاراته عندما نطق لأوّل مرّة اسمه بشكل صحيح: "أمّي، لقد قلتُ مصطفى!".