أبو حسن
التحقت بالمقاومة منذ أسبوعين. هكذا أجاب عندما سألناه. ستمضي سنون قبل أن يخوض تجربة قتالية حقيقية، سيتدرج شيئاً فشيئاً، أبناء المدينة هؤلاء الناعمون يظنون أن الحياة العسكرية مغامرة استكشافية. لن يصل بسرعة إلى ما عملنا سنين حتى اكتسبناه ومارسناه وجرى في عروقنا. كان شاباً لم يتجاوز العشرين من العمر، لم يكد يغزو الشعر عارضيه، إلا أن نظرته كانت تنم عن طمأنينة حالمة، وبساطة في الآن ذاته، ويبدي صمته أنه من الذين يفكرون في أشياء أخرى لا تدور على الألسن... تصرفاته كانت تنم عن طبع خدوم ومخلص، وحيوية مفرطة تليق بشبابه.
أراد أن يتخطى من سبقوه تجربة وخبرة منذ أول يوم، وكانت تساؤلاته تشرح ما يجيش في ذلك الصدر الصغير من عطش للجهاد ومحبة للتعرف على غموض كلمة شهيد. كان ينظر إلى صور شهداء محورنا المعلقة على الجدران، ويسأل: كيف كان الشهداء قبل أن يستشهدوا؟ هل هم مميزون فعلاً كما يقال دوماً؟ بماذا كانوا يتميزون؟ كان يسائل هذا وذاك، ويلح متصوراً أننا كشفنا هذا الغموض قبله. كل ما تلقاه من إجابات كانت بضع حوادث متفرقة لشهيد هنا أو هناك تُظهر إيثاره أو شجاعته، لكنه كان يبدو مستأنساً بهذه الأحاديث وكأنها كانت تغلق كهفاً عميقاً في ذاته، كان يحب تلك التفاصيل والاستماع إليها، بدا ذلك في عينيه المتلهفتين. منذ اليوم الأول وربما بدافع الحياء بين هؤلاء الذين كانوا دوماً في خياله بمثابة شيء ما فوق البشر كان يخدمهم، يهيئ طعامهم، ويرتب الغرف، وإذا كان أحدهم يهم بالخروج إلى حراسة أو دورية يساعده على تحضير سلاحه وذخيرته ويعطيه بفخر بادٍ على وجنتيه المتوردتين بندقية من تلك المعلقة على الجدار. قلت في نفسي: إن عجلته هذه وحماسته لا بد وأن تتحولا إلى هدوء ورصانة مع مرور الوقت، إن الحياة العسكرية المليئة بالصعاب تترك بصمات لا تزول على قلب الإنسان... فشتان بين ما كنت عليه يوم أتيت إلى هذه الجبال وبين ما صرت عليه بعد مضي تلك السنوات.
على أن كل قادم جديد كانت حماسته تثير فينا ذكرى تلك الأيام الأولى التي أتينا فيها آملين أن نستشهد بعد ساعات. عند مساء ذلك اليوم الذي لن أنساه، دخلت غرفة جانبية، كان ساجداً فانتظرته حتى ينتهي، سمعته يئن أنيناً حزيناً، لقد كان يبكي... آه... لكم يذكرني بالسنين الخوالي، أما اليوم فلقد بتنا أشبه باليائسين من الشهادة، لقد داخلت أعمالنا نوايا متقلبة وأهواء جامحة، ليتنا نعود كمثل هؤلاء الشباب. وعندما رفع وجهه المحمر من السجود، أطرق يمسح دموعه بمنديل قماشي مائل إلى الزرقة، ثم نظر إلي:
هل تنتظرني؟ أتريد الصلاة هنا؟
كلا، لقد كنت أبحث عنك، أريد أن أحادثك قليلاً. بعد أن تحادثنا لبعض الوقت، اتصل بنا مسؤول مجموعتنا، وطلب مني أن أصطحب القادم الجديد إلى مربض الهاون الذي ينتظرنا في الوادي... كان هناك خطر محدق بدورية لنا توغلت في الشريط الحدودي. لم تكن الدنيا تتسع لقلبه الذي كان يخفق أسرع من الثواني ومن الزمن، ولم يستطع إخفاء ابتسامته وهو يرتدي البذلة العسكرية لأول مرة، واختار بندقية جديدة كل الجدة، وانتعل حذاءاً عسكرياً، ومضينا. كان الوادي قد أظلم في غيبة القمر والنجوم المختبئة خلف الغمام الرمادي الكثيف، وزادت عتمته ظلال أشجار البلوط المحيطة بالطريق من كل جانب. كان ذلك الشاب يتقافز على الصخور، وتخب قدماه خباً فوق الأوراق الصفراء المتناثرة بين الحصى. ربما كان يشعر بأنه انتقل من الطفولة إلى الرجولة دفعة واحدة. وإذ وصلنا وفتحت الصندوق الحديدي الذي يحتوي القذائف، سألني:
بم أساعدك؟ كنت خائفاً من أن يخطئ في التعاطي مع القذيفة، لعل تلك أول مرة يرى فيها مدفعاً. سيوقعنا في كارثة، لكن إلحاح عينيه ذكرني بحماستي التي لم يكن يحدها شيء عندما كنت في مثل سنه، قلت له: انزع حلقة الأمان من مقدم القذائف التي أعطيك إياها... ثم ضعها هناك على الأرض المستوية. كان لهاثه قد خبا، وغدا مطمئناً بعد أن جهز القذائف، وأخذ يساعدني في تحضير المدفع ويسأل عن كل شاردة وواردة، ثم ودون حادث ابتعد قليلاً وجلس على صخرة صغيرة تحت شجرة بلوط، وضع رأسه بين كفيه، وأخذ بين الفينة والأخرى يمسح عينيه بكمه، لعله كان يبكي. غدا المدفع جاهزاً وموجهاً إلى الهدف، وكان ما علينا فعله أن نسقط القذيفة من الفوهة. اتصلت بنا القيادة عبر الجهاز اللاسلكي، وأعطتنا الإذن بإطلاق ست قذائف متتالية... فقلت له: سأحافظ أنا على توجيه المدفع، وستسقط أنت القذائف. تهلل وجهه، وأتى بالقذائف، أسقط الأولى فانطلقت بدوي هائل، لكنه لم يرف له جفن، ثم أسقط الأخريات بطمأنينة كاملة. الشغف يحل كل المشاكل، أطلقنا عشرين قذيفة، واتصلت القيادة بنا: لقد دمر الموقع تماماً لقد أسكتت جميع دشمه ورشاشاته... بارك اللَّه فيكم.
في تلك اللحظة، ولما خف الطنين في أذني، توهمت أنني أسمع صوت طائرات قادمة من بعيد، أصخت السمع وانتظرت، وصرخت به: أركض بسرعة، هيا... لقد جاءت الطائرات... بسرعة احمل سلاحك واركض نحو الوادي... هيا، هيا.. عدوت غير آبه بانحدار التلة، وبعد قليل لم أعد أتبين الطريق وسط الظلام، نظرت إليه، كان خلفي مباشرة ولمحت في نظرته طيف وداعة غريبة لا تنسى... تابعنا العدو يسبقنا اللهاث، فيما كانت الطائرات تحوم فوقنا، بدأت أشك في كوننا مخفيين عنها... نظرت خلفي، كان التعب قد بدأ ينال منه وتأخر خلفي فقلت له: أسرع وابق تحت الأشجار ما استطعت. كانت هذه آخر كلمة قلتها له قبيل استشهاده، ومضى أشلاء قطعها صاروخ الطائرة... والآن يمر في خاطري الحديث الذي تبادلناه قبل الانطلاق، كان رغم حيويته الواضحة، لا يخفى على الناظر إليه أنه يخفي غماً مجهول السبب، أخذته إلى الشرفة، وجلسنا على كرسيين متقابلين، في التلال المقابلة، كان المساء قد ألقى ضياءاً مخادعاً تخلله ضباب الخريف، وكانت بعض القرى قد بدأت تطل بأضوائها من بين الوهاد، وقد تدلت أغصان شجرة التين على أعتاب الشرفة باذلة رائحة النسغ التي لا حد لجمالها، وقد بدأته بالحديث: كيف حالك، هل أنت مسرور بيننا؟ نعم، لقد انتظرت طويلاً هذه اللحظة. إنك صغير السن بعض الشيء. لقد أتيت، ابن قائدنا استشهد في هذا المحور بالذات. ... قبل مجيئه بأسبوعين، كان هادي حسن نصر اللَّه يزف شهيداً.