نسرين إدريس
الشهيد المجاهد محمد حيدر الجوهري "بلال"
الشهادة هي تتويج نصر... هي تتويج عز
اسم الأم: هدلا القرصيفي.
محل وتاريخ الولادة: الهرمل28-04-1978.
الوضع العائلي: عازب.
مكان وتاريخ الاستشهاد: وادي السلوقي 6-05-1996.
لكم كانت بسمته الدافئة تذيب صقيع الثلج عن القلوب المشتاقة إليه، والعيون ترمقه بحبٍ كبير وهو يعبر بين تراكم الثلوج في ظلمة الليل، ليهيئ لأهله وأخوته مياه وضوء صلاة الصبح.. كم كانت نظراته الهادئة تبعثُ على السعادة، وهو يبادر إلى خدمتهم بعطفٍ وحنان استقته روحه من فيضِ عطاء والدته، المدرسة الأولى التي علّمته معنى العطاء.
فتح "حيدر" كما ينادونه عينيه في بيت يُحيي الشعائر المستحبة كأنها واجبات دينية، وكان لهذا الأثر البالغ في صياغة شخصيته التي عرف أنها لن تكتمل ما لم ينل الشهادة. فكل ما رآه وسمعه في حياته أكد له أنه لن يصل إلى ما تصبو إليه نفسه ما لم يوفق لنيلها. كان فتىً صغيراً حينما كان أهل بعلبك يتتبعون أحداث ثورة الإمام الخميني قدس سره، الرجل الذي أثار فضول العالم، والذي غيّر في رسم الخارطة الإسلامية أولاً، ومصير من آمن بثورته ثانياً، ولم يجد حيدر صعوبة في فهم ووعي حقيقة تلك الثورة، لأنه أنصت بأذنيه وقلبه إلى كل الأحاديث والنقاشات التي دارت حول ذلك. وفي يوم الانتصار العظيم لتلك الثورة، شارك الناس فرحتهم، وراح يركضُ رافعاً قبضته عالياً وهو يصرخ: "الله أكبر".. راقب حيدر تسارع الأحداث بين انتصار الثورة، وبدء غزو العدو الإسرائيلي لأراضي لبنان، وقد بدأ رفض الخنوع يتبلور مع قدوم الحرس الثوري إلى بعلبك بتشكيل النواة الأولى للمقاومة، وشاهد عن كثب مؤتمر انطلاق الثورة الذي عقد في مسجد الإمام علي عليه السلام في بعلبك، وكان هو حينها في الكشافة يتعلّم أولى قواعد مقاومة الاحتلال.
تدرج حيدر في كشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه حتى أصبح قائداً في صفوف أحد أفواجها وعنصراً في الفرقة الموسيقية، فرفدَ الفتية بالتعاليم المحمدية الأصيلة، وغذّى قلوبهم بالعشق الحُسيني المفضي لنيل الشهادة. لم يختزل تاريخ محدد التحاق حيدر في المقاومة الإسلامية، فقد وجد نفسه، كالكثيرين من أبناء بعلبك، منخرطين في المقاومة عن كامل وعي واقتناع، وكان الجهاد ملح خبزهم، فالتحق بالدورات العسكرية، وشارك في المرابطات على الثغور، وهو لا يزال بعدُ على مقاعد الدراسة. كان حيدر شاباً أنيقاً جداً ومرتباً إلى حدّ يُلفت النظر إليه، وصار اهتمامه بأدق تفصيل للنظافة والترتيب صفة وصمت بها شخصيته، فهو قد خصص ثياباً للصلاة التي لم يكن يؤديها إلا في مسجد الإمام علي عليه السلام، ولم يمنعه البرد القارص والثلوج المتراكمة من تأدية حتى فريضة الصبح في المسجد. أما صلواته المستحبة ودعاؤه ومناجاته، فكان يحرص على سريتها لما تحمله من خصوصية عاشقٍ يناجي معشوقه، وقد انتقى شجرةً منزوية في حديقة منزل ذويه، ليجلس في فيئها صيفاً فتكون محرابه الخاص الذي تعرج منه روحه إلى ملكوت السماء. لم يكن حيدر يطلب خدمة من أحد، وإن كانت تافهة جداً، بل كان يبادر لخدمة الآخرين، ولا ريب انه استقى هذه الملكة الحميدة من تعاليم الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، وقد رأى خير مثالٍ له فيها الإمام الخميني العظيم قدس سره الذي ترك الأثر البالغ في فكره ووجدانه.
في العام 1993 أنهى حيدر دراسته الثانوية بامتياز، وعوض الالتحاق بالجامعة كما كان مقرراً، سافر إلى الجمهورية الإسلامية ليخضع هناك للعديد من الدورات التخصصية، ولم يتم انتقاؤه للمشاركة في هذه الدورات لفطنته وذكائه وسرعة استيعابه فحسب، بل أيضاً لوعيه وإدراكه خطورة المرحلة التي يمر بها العالم الاسلامي، ولتدينه وإيمانه العميق وثبات قلبه في اللحظات التي تمسك الدنيا بقميص من أدار وجهه صوب الآخرة. مع بداية عمله وتفرغه الكامل في صفوف المقاومة الإسلامية، أدرك حيدر أن شرف نيل الجهاد الأصغر إنما يُستقى من بركات فيض الجهاد الأكبر، فوضع نفسه تحت مجهر محاسبة النفس الدقيق، ولم يتهاون معها طرفة عين، وبدأت تباشير الرحيل تلوح بين كلمات يزرعها عن قصد أثناء تحادثه مع أهله وأخوته، ويذكّر والدته المؤمنة التي ربته على حبّ أمير المؤمنين علي عليه السلام، بأن أجر الصبر والاحتساب بقضاء اللَّه لا يعلمه إلا العلي القدير، وأن لحظة الحقيقة تلك التي تكون بين يدي السيدة الزهراء عليها السلام وقد بيّض الله وجه أم الشهيد أمامها عليها السلام.
كانت مهمة حيدر في المقاومة الاسلامية تدريب الأخوة المجاهدين، ولم تأذن له قيادة المقاومة بالمشاركة في العمليات العسكرية، نظراً لأهمية العمل الموكل إليه، مذكرين إياه بقول الإمام الخميني قدس سره: "بذل العرق للتدريب يوفر الدماء في الجبهات"، فبقيت الغصة تخنقُ روحه بقيد من حسرات، متحيناً الفرص للاستحصال على الإذن، ولم يمنعه ذلك من رفع رسالة يتمنى فيها على القيادة قبوله في سرايا الاستشهاديين، وقد تمت الموافقة على ذلك. كان معسكر التدريب نافذة تعرف من خلالها حيدر على الكثير من المجاهدين الذين صاروا شهداء. وجوه حفرت في قلبه ذكريات أنبتت أحلاماً سعوا إليها بكل جوارحهم، وبقي هو ينظر إلى أطيافهم بشوقٍ كبير، فعزم على أخذ إجازة من عمله للمشاركة في العمليات الجهادية أو حتى المرابطة على الثغور، وبعد جهدٍ تمت الموافقة على الإجازة، فأبلغه المسؤول المباشر أن المدة المحددة هي أربعة أشهر فقط، لم يصدق حيدر نفسه عندما سمع الموافقة، وقد نظر في عيني مسؤوله راداً عليه: "أربعة أشهر ستكفيني..". كانت تلك الأيام من أجمل أيام حياته. وحيدر الذي ينضح بالنشاط والحيوية، أنارت السعادة وجهه ولفتت الأنظار إليه، وقد أثار استغراب والدته قيامه بأعمال "أم داوود" (الدعاء المستحب لقضاء الحاجة وموعده في الخامس عشر من شهر رجب) يوم عيد الغدير الأغر، قبيل انطلاقه بيومين، وعندما حمل حقيبة ثيابه متوجهاً إلى الجنوب، حملتْ والدته كتاب القرآن الكريم ليعبر ولدها من تحته، ثمّ فتحت أوراقه فكانت الآية: "قاتلوهم يعذبهم اللَّه بأيديكم...".
لم يكن غياب حيدر في المرة الأخيرة كغيره من الأيام التي قضاها خارج المنزل، فقد انسحب من بين أخوته بهدوء بعدما كان ملأ البيت ضجيجاً وصخباً جميلاً.. وهناك بين رفاقه المجاهدين علت ضحكاته الرنانة من شدة الفرح، وقد أخبرهم أن من أراد منهم ألا يعود إلى الدنيا فعليه أن يأتي معه في ذلك النهار الذي كان اليوم ما قبل الأخير من انتهاء الإجازة.. تقدمت مجموعة المجاهدين في وادي السلوقي للقيام بعملية جهادية، وأثناء تقدمها وقعت في كمين للكومندوس الإسرائيلي، فجرت مواجهة مباشرة بين الطرفين، ما أدى إلى إصابة (الشهيد) الشيخ ميرزا، فطلب إليه حيدر أن ينسحب على أن يقوم بتغطيته، ففعل وهو يلتفت إلى حيدر الذي وقف أمام الصهاينة وبقي يرميهم برصاصه حتى آخر طلقة رصاص، قبل أن يسقط شهيداً، وبقي جسده في أرض المعركة ستة عشر يوماً قبل أن يستطيع المجاهدون إعادته، فوجدوه ولا يزال إصبعه على الزناد. قطف حيدر حلمه كآخر ورقة في وردة الأمنيات، وبقيت بسمته، ونظراته اللامعة شذى من رائحة الجنة يعبقُ في أرجاء العمر..
من كلماته للأخوة في معسكر التدريب:
"الشهادة هي تتويج نصر، الشهادة هي تتويج عز، الشهادة هي تتويج تضحية ووفاء، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يخلع نعليه عندما يدخل المعسكرات، والمكان الذي أنتم فيه هو أطهر من المعسكرات، لأن فيه التدريب والقساوة مع الضغط النفسي. لا يمكن أن نكون مجاهدين حقيقيين إلا من خلال الإعداد الحقيقي... نتمنى لكم الصبر واليقين في أنكم في درجة المجاهدين وبصبرهم وثباتهم، أجركم كأجرهم، فصحيح أن النفس تعشق وتطلب وتأنس للذهاب إلى الأماكن المقدسة التي نزفت بها دماء الشهداء ولكننا لن نصل إلى تلك الجبهات دون تدريب وثبات للوصول إلى تلك المراحل".