مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

لمحات من حياة الإمام السيد موسى الصدر الاجتماعية

حسين شرف الدين(*)

 



إن اكتساب فكرة أو رأي أو عادة عن شخصية قيادية تقع من الفرد على مستوى الالتزام الحياتي فهو ما يسمى بالاقتداء، ولا يتأتى إلا للأقلين من الكبار، ولا يتعددون في العصر الواحد والمجال الواحد، فللقيادة الاجتماعية مثلاً واحد هو المميز ويليه آخرون، وقد يتعدى التفاوت عدة درجات. ولي أن أزعم أن الإمام الصدر بقي محافظاً على خط مميز إذ لم يمارس فقاهته بالأسلوب التقليدي، بل اتجه وكان الأوحد لأن يسخِّر كل ما أوتيه من اللَّه لخدمة المجتمع، حتى جاز لنا أن نسميه فقيه المجتمع أو فقيهاً اجتماعياً أو أي تسمية تعبر عن توجهه المميز، ومن هنا جاز لي أن أتحدث عما قدم من صُوَر التمايز في الممارسة الاجتماعية، وأقتصر هنا على لمح من علاقاته مع الأقارب والأصحاب والمجتمع.

* الإمام والأهل:
من برّه بأبيه في مرضه أن الإمام الصدر كان يقوم على علاجه وإعطائه الدواء بمواعيده وينام في غرفته ليقوم على حاجاته بدلاً من أمه، وكان دائم الاتصال بالأطباء للوقوف على آخر تقاريرهم حول صحة الأب. كان عندما يحس باستعداد أبيه للخروج من البيت يعمد إلى نعاله فينظفها، وعندما يعود يمسحها ويضعها جانباً (استمر على هذا حتى وفاة الأب، كان مجتهداً حينها). برّه بالأم لم يكن أقل من برّه بالأب، رسائله من النجف إليها، ومحاولات إقناعها بالسكن معه في لبنان تعبر عن حاجة عنده للوقوف على خدمتها، ولم يكن يسافر إلى مكان دون استئذانها، وقد كنت بقربها يوم خابرها من لبنان يستأذنها في السفر للحج وكأن الاستئذان من واجبات القيام بالعبادة. كان لأخويه وأخواته نِعمَ الشقيق يعامل الأكبر من أخوين وأخت معاملة الأخ الأصغر، ولم يكن يتعامل مع أخواته الأصغر معاملة الأخ الأكبر، بل كان يشعرهن دائماً بأنه الأخ المنتظر لقضاء حوائجهن، وكثيراً ما سمعته يقول عندما يذكر أخته الأصغر منه مباشرة بأنها أمه، وهذه صورة لما بين أفراد الأسرة من محبة.

شقيقته الأصغر في الأسرة (رباب) تذكر أيام افتقدت أباها وهي في سن التاسعة من العمر، أنه كان يعاملها بنفس الأسلوب الأبوي، وكأنه يريد أن يشعرها عملياً بوجود الوالد، وأنه لاحظها (تخربش) على دفتر صغير فغافلها يوماً ليقرأ كلمات طفولية حزينة جعلته أكثر احتضاناً لها. وما كان اهتمامه بأن يكون القائم على أمور الإخوة والأخوات دون أولادهم، فيعمل على أن يشعرهم بأنه العم والخال الذي يقف لشؤونهم حتى صاروا يقصدونه دون آبائهم. وتبدي شقيقته السيدة رباب أن الإمام الصدر لم يتعامل مع الكبار بهذا الأسلوب فحسب، بل إن الصغار كان لهم نصيب من التعلق به على طريقتهم الخاصة، وتذكر أنها لاحظت على أصغر أبنائنا شيئاً من عدم الاستقرار، وكان عمره ثلاث سنوات، ومرة رن التلفون وكان المتصل خاله، فأخذ منها السماعة ورطن بضع كلمات وضحك ثم ناولها إياها وجلس هادئاً مستقراً، فانتبهت أن الإمام انقطع عن الحديث معنا أو زيارتنا لعدة أيام في انشغالات سفر، فوعيت سبب قلق ابننا.

* الإمام والأسرة
جولتنا مع العائلة لا تكتمل إلا إذا استأذنا للدخول إلى البيت الأسري الخاص لنرى مصداق ما رمى إليه الإمام زين العابدين عليه السلام من حق الزوجة على الزوج وحق الأولاد على الأب في أنس السكن وحسن الصحبة ورفق الرحمة وكمال الود. تطالعني أول الأمر صورة انطبعت في الذهن ومثلها لا يمكن إلا أن تعتبر صورة العمر المثلى، فموسى الصدر الأب، وفي مكان عام، يُلبس طفلته ذات السنوات الثلاث نعالها، فهل هذه إلاَّ صورة فريدة في خدمة الأولاد تمارس مع الأصغر؟ كذلك فإن الإمام الصدر كان يُحمِّم أولاده كلما وجد أن أشغال البيت تأخذ كل أوقات زوجته، ويعتبر هذا من مهام الزوج، وهذا مما اطلعت عليه شخصياً من الداخل، وبهذه المناسبة أذكر أنني دخلت بيته مرة وأحسست أن "أم صدري" بانشغال كبير وتبين أنها تقوم بمهام (التعزيل) وهي وحدها في المنزل فأسرعت إلى إحدى العاملات وأحضرتها للمساهمة بالعمل وانتهى النهار وبعض من الليل فخرجت العاملة إلى منزلها، فقام الإمام بالمساعدة، وبالأثناء استيقظت حوراء ابنته وكانت حديثة الولادة فتوجه إليها يرعاها لتكمل الأم عملها مطمئنة.

في التخفيف عن زوجته لم يكن يعبأ بتقاليد لا محل لها، ومنها أنه كان يحمل الطفل صدري وكان لا يزال يحبو ويخرج به إلى السوق، إذ احتاجت أم صدري لحاجات مستعجلة، وهي مشغولة كثيراً، ومن المشاهد غير المألوفة أن يحمل العلماء صغارهم خارج المنزل. أسلوب الإمام السيد موسى الصدر التربوي يرتكز على الاحترام المتبادل والمحبة، وليس على الضغط والسلطة، فعمل على تأمين الجو المناسب لنمو أسرته في مناخ الحرية المسؤولة. ينقل السيد صدري أن أباه شاهده يدخن سيكارة فغض الطرف، وفوجئ في اليوم التالي بأبيه يقدم له علبة دخان وقداحة، ويقول السيد صدري أنه منذ ذلك الحين أصبحت من أعداء التدخين. ويتحدث السيد حميد أنه يوماً قدم لأبيه أوراق علاماته المدرسية ولم تكن مرضية، فطالعها الأب ووضعها جانباً دون كلام، ولكن الغضب واضح، ويقول السيد حميد خرجت من الغرفة وأنا أتمنى لو أنه أشبعني ضرباً وإهانات فلقد كان صمته آلم وأوجع. أساليبه التربوية كانت متنوعة: قليل منها المباشر، وغالبها بالاقتداء وبعضها بتداول الحديث، فمن المباشر عندما يدعو ابنيه لعدم تمييز نفسيهما، باعتبار الذكورة، عن شقيقتهما لأنوثتهما، أو يدعو ابنته لعدم تمييز نفسها عن ابنة المساعد في البيت، فاللَّه لا يميز بين صلاتيهما. أما في التربية غير المباشرة فنلمسها من جوابه لأم صدري عندما طلبت منه أن يستفيد من الجلوس إلى أولاده لتوجيههم فقال: أن سلوكي هو الأكثر تأثيراً وأهمية في تربية أولادي، ففي ملاحظتهم تصرفي، وإرضاء ربي، ومعاملتي الناس ما يتعلمون ويطبقون. ومن أساليبه في تداول الحديث، أنه يستفيد من الحديث الدائر في المجلس فيأخذ كلمة أو رأياً جرى، فيبني عليه ما يناسب للتوجيه، وإذا كان في سفر مع أسرته فيطلب من كل واحد أن يتحدث بما يشاء بقصد التخفيف من عناء السفر، ويترك نفسه للآخر فيأخذ مما تحدثوا به ما يناسب نهجه التربوي، أو أنه يتحدث بما يعتبرونه أحد دروسهم العملية، كأن يتحدث عن خصائص الزهرة وأوراقها والمسام فيها بأسلوب ديني وعلمي.

* الإمام والناس‏
آن لنا أن نخرج من البيئة العائلية للإمام السيد موسى الصدر لنقدم نبذاً من علاقاته مع المحيط الخارجي، وكيف يختار أصدقاءه ورفاقه، والناس تختلف أذواقهم ومشاربهم، ولهذا نجد له معايير للمجموعات التي يتواصل معها، من جماعة للدرس والتذاكر فيه، وأخرى لرفقة السفر وقرض الشعر وجلسات الأدب والتاريخ والطرائف والنوادر، وثالثة للصداقة ذات الرأي والمشورة وتحمل الأعباء، وبهذه المعايير لا نجد إمكانية وجود خلافات بينه وبين أحد إذ أنه يتعامل مع كل واحد ضمن معيار لا يتعداه. كان أهل الإمام الصدر يصطافون في قرية قريبة من قم مناسبة المناخ لأبيه، وكان هو في مطلع الشباب، ولم يكن عنده عطلة صيفية كباقي زملائه، بل كان ينظم برنامجاً خاصاً لموضوعات لها ارتباط بالدرس الحوزوي دون أن تكون من منهاجه، ويتفق مع أساتذة لهذا، ولذا كان يومياً يذهب إلى قم، وعند العودة كان يمر على أصدقائه الأطباء والصيادلة فيجمع أدوية تناسب (التراخوما) وفقدان المياه من الجسم وما عداها من الحالات المرضية التي تكثر صيفاً عند الأطفال، وبالخصوص أطفال الريف الذين يفتقد أهلهم الوعي الصحي، وقد اعتاد القرويون على انتظاره مع الأطفال فيعالجهم ويدرب الأم على طريقة العلاج. من الأمور التي كان يلتزم بإقامتها هي ليلة 15 شعبان يضي‏ء فيها الشموع ويزين البيت، ويحضر أصنافاً من الحلوى والفواكه، يقوم بهذا بنفسه وبكثير من السعادة، ويحرص على حضور كامل العائلة وبالخصوص الصغار، ويخلق جواً من الفرح والمرح إلى أن يتعب الصغار، فيجلس الجميع لقراءة القرآن والدعاء، فيقطع سفره من أي مكان في إيران للقيام بهذا الواجب المقدس عنده. هذه لمحات سريعة لجوانب لها أبعادها في سلوك الإمام السيد موسى الصدر ولا يزال الكثير مما نتحدث عنه عقيدة وسلوكاً وتصميماً وخط حياة.

(*) صهر الإمام موسى الصدر.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع