مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الشهيد محسن صالح بجيجي‏

نسرين إدريس‏

 


اسم الأم: نجلاء صادر
محل وتاريخ الولادة: مشغرة 1965- 3 -11م‏
الوضع الاجتماعي : متأهل وله ابنة
محل وتاريخ الاستشهاد: عين بوسوار 1989- 8 -19

من مشغرة سيدة الصمود التي حاكت من خيوط القمر منديل عز الوطن الموشح بالنجيع، جاء يحمل في جعبته أحلاماً صغيرة زرعها عند أطراف القرى المسبية، بين شوك السياج وأزيز الرصاص، لتنمو فتشعل أوار الحُبّ الذي صار رؤى عينيه ومنية روحه. لم تحفل حياة محسن بجيجي في بداياتها بالكثير من الحوادث، فهدوؤه المفرط طغى على أيامه التي انقضت بروية في قريته التي بسطت كفيها الدافئتين لابنائها، وضمتهم إلى حضنها وخافت عليهم من ذئاب الأيام.

كان محسن في الثامنة من عمره عندما بدأ يقوم بالواجبات الدينية، وقد نهل فطرة الإيمان من عائلته التي رعته وأولته اهتماماً مميزاً لأنه الولد الأخير بين إخوته العشرة. وإذا كان فقر الحال قد ضيَّق الخناق على الكثير من المستضعفين، فإن غنى القناعة والرضى كانتا تاج المُلك الذي لا يبور على رؤوسهم، فاضطر محسن إلى ترك الدراسة والبدء بالعمل فانطلق بعزيمة الرجال إلى ساحة الحياة ترافقه تمتمات دعاء والديه. ولاحت في الأفق الشريد عينا الذئب الإسرائيلي الذي راح يعيث في الأرض الفساد، ونزفت أوداج الوطن من سمّ مخالبه فظهر الموت والقهر والتشريد. غادر محسن مع العديد من شبان قرية مشغرة وقرى البقاع الغربي تجنُّباً للبطش الصهيوني إلى بيروت، ليبقى هناك فترة من الزمن ذاق فيها مرارة الغربة للمرة الأولى، منتظراً عند مفارق الوقت الفرصة السانحة للعودة إلى أمه الرؤوم "مشغرة".

بعد عودته إلى مشغرة أصبح محسن واحداً من حواريي الرجل الذي حمل قضية المقاومة وجعلها ورفاقه القادة قضية الأمة. إنّه الشهيد القائد الحاج محمد بجيجي الذي غيّر مفاهيم وعقلية المجتمع، وتحمّل الكثير من المعاناة في سبيل صقل رجال ربانيين، وقد عبّر الشهيد محسن عن الشهيد بجيجي بأنه : "الأستاذ الذي عرَّفنا الإسلام". أصبح النهج الخميني الذي أجاد الحاج بجيجي ضخه في شرايين العديد من الشبّان هو السبيل الوحيد لهم للحياة التي يبغونها، فالتحق محسن في العام 1985 بأوّل دورة عسكرية له ليبدأ العمل الفعلي مع رجال المقاومة الإسلامية بعد أن كان عمله يقتصر على بناء الدشم والتحصينات. ومع بداية عمله العسكري المشفوع بسرية تامة، خطى محسن بجيجي أولى خطواته في عالم الآخرة. فمن يختار طريق الجهاد الأصغر كان لزاماً عليه أن يسلكه من طريق الجهاد الأكبر.

وقد عرف محسن حق المعرفة أن من أراد وجه الله عليه أن يترك أولاً، وقبل كل شي‏ء حب ذاته الذي يقوده إلى الراحة الدنيوية المحدودة، فمشى فيه واثق الخطى متوكلاً على الحي الذي لا يموت ليرشده سواء السبيل. وحيث إن التواجد في المسجد أمرٌ مقدَّس، فقد واظب محسن على أداء صلاته فيه صيفاً شتاءً لأنه محراب تربية النفس، وملجأ الذين يرغبون بذكر الله لتطمئن قلوبهم، فإن التواجد في المحاور المتقدمة للمقاومة الإسلامية هو سفر الروح إلى الملكوت الأعلى، والوصول قاب قوسين أو أدنى، لذا فليس غريباً على رجال المقاومة الذين جعلوا حياتهم الواسعة المعنى تمضي في مسافة تمتدُ من الدشمة إلى الرصاصة، أن يسكنوا ذلك المكان ويسكنَ هو في مسام وجودهم، ومحسن من الرجال الذين ضاقت عليهم رحابة الدنيا، فهجرها إلى اللحظة التي تحمل أزيز الرصاصة، وحبات التراب التي أخذت من دماء وعرق المجاهدين إكسير الحياة، ولم يغادروا المواقع عند حرّ الصيف أو برد الشتاء. وبين الثلوج ورياحها القارصة، كان ورفاقه يشقون طريقهم نحو الآخرة، ففي أحد الأيام كانت مجموعة من المجاهدين بينهم محسن ، يتسلقون جبل "تومات نيحا" ويزيحون الثلوج بأيديهم كأنهم يحرثون التراب الطريّ. وكان محسن ينظر إلى الأمام غير مبالٍ بقسوة الطبيعة، وإذ برجله تنزلق ويتدحرج من أعلى الجبل إلى أسفله، ولم يأبه لآلام ألمت به، بل راح مباشرة يبحثُ عن سلاحه الذي فقده، وبقي على مدى يومين يبحث عنه في الفلاء حتى وجده.

وكاد محسن إن يفوز بتلك اللحظة في يوم وفاة الإمام الخميني العظيم قدس سره عندما كان يقوم مع أحد المجاهدين ببناء دشمة في تلة "أبي راشد" فيما كان الطيران الإسرائيلي يحلق في أجواء البقاع الغربي، وفي نفس اللحظة التي انتقل فيها محسن إلى دشمة أخرى سقطت قذيفة في الدشمة التي بقي فيها رفيقه المجاهد فنال الشهادة. عاد محسن حاملاً رفيقه على كتفيه باكياً شاكياً. تلوعه فكرة أن يكون الله عز وجل غير راضٍ عنه ولهذا السبب لم يرزقه الشهادة.

تلك الدموع التي لوَّعته، هي التي بللت تراتيل صلاته وهو يطرق باب الله في محراب المسجد، وهي نفسها التي حملته على جناحي الحسرة، في صدره تضرب بروق القهر عند حافة قبر أستاذه الذي غادره باكراً، وقد أعطى تلامذته آخر درس في الشجاعة والوفاء والصدق، بعد أن قام العدو الصهيوني بتنفيذ أكبر عمليَّة عسكرية على قرية ميدون البقاعية، وعادت منكفئة إثر الخسائر الفادحة التي الحقها بها مجاهدو المقاومة الإسلامية، وقد أُسر فيها المجاهد حسن العنقوني زوج شقيقة محسن، وقد خطط الشهيد محمد بجيجي طويلاً لفكرة أسر جندي صهيوني بهدف استعادة الأسير العنقوني، غير أنه استشهد في مواجهة كومندوس إسرائيلي متسلل. عند أطراف قبر "المعلم" في كل يوم، كان محسن يجلس ليجدد العهد ويشحذ العزيمة الحسينية في نفسه المشتاقة لأن يقطر جسده قطرات الدماء. عندما قرر محسن أن يتزوج، لم يكن يملك ثمن خاتم الخطوبة، وما قيمة مال الدنيا أمام رجلٍ يملكُ بيمينه كتاب الله وبيساره سلاح الجهاد؟! وكلما طلب منه أهله بناء منزل له ولزوجته الحامل، ضحك وأخبرهم أن بيته في الجنّة ينتظره.

لم يكن غياب الشهيد بجيجي ووجه حسن العنقوني مجرد حادثة مرت في حياة محسن، فقط كان يصرّ على زوجته البقاء بالقرب من أخته زوجة الأسير العنقوني ورعايتها، تمهيداً لفكرة رحيله، وكلما أراد الانطلاق إلى عمله، أصر على زوجته أن تلبسه الجعبة، وهو يذكرها أن السيدة زينب عليها السلام ساعدت الإمام الحسين عليه السلام على التجهُّز للقتال، وأوصاها أن تُسمي المولود ما إذا كان فتاة "زهراء" وأن تعتبرها أمانة وتربيها على القيم والمبادئ المحمدية الحسينية. لم تكن ملامح الأيامِ التي مرت قبيل انطلاقه للمرة الأولى إلى الجنوب للمشاركة في عملٍ جهادي بعيداً عن البقاع الغربي عادية، فهو في أيام عاشوراء قد هجر مكانه إلى كربلاء ليقطف من سهامِ الشجاعة واحداً يزرعه في كبده مواسياً سيده الإمام الحسين عليه السلام، وها هو في مسيرة "السبايا" التي أقيمت في الثالث عشر من المحرم يسير في شوارع مشغرة يلطم بقوة وكأن روحه قد فارقت جسده وهو ينادي "الوداع، الوداع"، كان صوته يتردد في زوايا مشغرة كأنها أرادت أن تحفظ من شذرات صوته عطر الخلود.

لم يغمض لمحسن في ليلته الأخيرة جفن، وهو يستذكر الرؤيا التي رآها في حلمه، ويعيدها على مسامع زوجته: لقد كانت السيدة الزهراء عليه السلام تمسك بيده وترشده إلى الصراط المستقيم ليعبر عليه. وراح يقلّب الذكريات، كأن عمره صفحات أعاد قراءتها بسرعة، حتى إذا ما خط الفجر خيطه الأول حمل أغراضه وتوجه صوب الجنوب. كان العديد من المجاهدين ينتظرون القيام بعملٍ عسكري، ومرّت أيام ومحسن يتنقل بينهم يخدمهم بأشفار عينيه، حتى كانت لحظات أغار فيها الطيران الإسرائيلي على مركزهم فاستشهد محسن والعديد من رفاقه. لم يعد محسن. ولم يرَ طفلته زهراء التي ولدت بعد خمسة أشهر من استشهاده. هكذا هم؛ يعبرون جسر الدم بقلب مطمئن. يرحلون ولا يغيبون. ففي القلب شعلتهم لا تخبو. وذكراهم شمس تضي‏ء الطريق.

من وصيته: إخوتي المجاهدين، أوصيكم ببذل كل ما تملكون في سبيل الحفاظ على المقاومة الإسلامية التي هي امتداد لنداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام في كربلاء: "هيهات منّا الذلة"، فرددوا يا إخوتي هذا النداء لتزلزلوا عروش الطواغيت كما زلزل الإمام الحسين عليه السلام عرش يزيد.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع