الشيخ يوسف سرور
السيادة مفهومٌ ينطوي على معاني الانعتاق من القيود، والتحرر من الارتهان والتبعية، والانفلات من الوصايات. فهي إذاً، مفهوم متنافٍ مع الإكراه، متضاد مع الجبر متناقض مع القمع والقهر. والسيادة بهذا المعنى مفهوم إلهي خالص، حيث إن المصداق الوحيد في هذا الكون الذي ينطبق عليه ذلك المعنى هو اللَّه القوي المتعالي.
وقبل أن تسأل عن سبب هذا الاستنتاج، نجيبك: إن السيادة ونفي الحاجة أية حاجة أمران متلازمان لا يفترقان، وكلما كانت الحاجة ضاربة في شأن من الشؤون، كانت السيادة منقوصة بنفس المستوى والحجم، وكلما كانت الحاجة ماسةً وضرورية، كان الارتهان لمالك الحاجة أمراً لا بد منه "إحتجْ إلى من شئت تكن أسيره". وصحيح أن هناك الكثير من الحاجات غير ضرورية، أو هي ضرورية، لكن يمكن في سبيل حفظ السيادة من الانتقاص أن نتجاوزها ولا نسعى إلى سدّها. أما إذا كانت الحاجة من النوع الذي لا يمكن التخلي عنه، ولا مجال لتركه، كان الارتهان لمالك هذه الحاجة أقرب إلى التحقق. من هنا؛ فإن الموجود الوحيد في هذا الوجود الذي لا تعتريه حاجة، ولا ينتابه نقص أبداً، وهو الذي كل الوجود محتاج إليه، في أصل وجوده وفي استمرار بقائه هو اللَّه تعالى الغني المطلق. ينطلق البحث في السيادة عند الإنسان بعد الفراغ من هذه الحقيقة.
والإنسان لا تنتهي حاجاته، ولا ينعدم فقره، بل هو في قبال اللَّه الغني عين الفقر والحاجة. وإذا وصل الحديث إلى العلاقة بين البشر فيما بينهم، فإن اللَّه تعالى خلق كل هذا الكون مسخّراً لهم بما فيه وما عليه، وجعل فيهم القابليات الكافية للاستفادة منه؛ بما يسد حاجتهم، وينفي فقرهم، ويعينهم في طريق تحصيل الكمالات، وجعلهم من جانب آخر متساوين في حق الاستفادة مما يحيط بهم، لا فرق في ذلك بين فرد وفرد. فكل فرد في قبال الأفراد الآخرين سيد نفسه، حر مستقل، وحاجتهم إلى ما عند اللَّه سواء.
وكذلك هي حال الجماعات التي تأتلف في كتل بشرية، تجمعها مجموعة من المشتركات، فإن حاجتها إلى العيش بشكل طبيعي، مستفيدة من الطاقات والثروات من جهة، والحاجة إلى العيش بأمن وسلام وبعيداً عن الأخطار والأمراض والحروب والآفات التي تهدد المجتمعات، والتي تعتري علاقات المجتمعات البشرية هذه الحاجة متبادلة بين الأمم والجماعات، لا فرق في ذلك بين جماعة وأخرى. من هنا جاء الأنبياء عليهم السلام، وجاء الإسلام لينظم علاقات الأفراد فيما بينها بما فيها من التباسات وتقديم للنفع الفردي على ما عداه وليجعلها في الإطار الصحيح، وليعرّفها على الحقوق الشخصية والحقوق الاجتماعية، وبالتالي على الواجبات والمسؤوليات اتجاه الحق العام والآخرين؛ بما يكفل للأفراد حماية حقوقهم الفرديَّة في الأمن والثروة ونسج العلاقات بشكل هادئ وصحيح، وما ينجِّز عليهم من واجبات ومسؤوليات تجاه المجموع لتتشكَّل من ذلك الجماعة المترابطة المتآلفة وهذا يحتاج إلى ناظم لا يعتريه الطمع ولا الخطأ ولا تقديم للمصالح الشخصية أو الفئوية أو غير ذلك على المصلحة العامة في سلّم الأولويات، وذلك هو النبي المعصوم: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ (الأنفال: 63).
ترتبط هذه الأمة فيما بينها برباط متين اسمه حبل اللَّه ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ (آل عمران: 103)، فأولوياتها إلهية فيما يرتبط بالحقوق والواجبات والمسؤوليات، وفيما يرتبط في العلاقات والروابط، حيث جعل اللَّه لهذه الأمة موقعاً لا يحق لوليها إزاحتها منه ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: 143). من هنا فمفهوم السيادة عندنا، هو أن نكون في الموقع الذي يؤهلنا لنكون شهداء على الناس على الجماعات والأمم الأخرى وأصبحت السيادة حينها بمعناها الحقيقي هي عين الارتباط باللَّه ومن خلال الاصطفاف خلف وليِّه المعصوم عليه السلام، والتزام شرعه "وللَّه العزة ولرسوله وللمؤمنين" وإذا كانت الجملة الإسمية تفيد التوكيد في اللغة العربية، فهذا يعني أن العزة والسيادة الحقيقية لا تتحقق إلا بالارتباط باللَّه من جهة، وهي غير متحققة إلا في الرسول وأتباعه من المؤمنين. والسعي اليوم لتحقيق السيادة المزعومة من خلال الارتباط بالأجنبي، أو تحرّي تحقيقها بمساعدته وإشرافه أمر موهوم لا يرجع على صاحبه إلا بالخيبة والخسران. ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ (النساء: 139).