الشيخ طليع حمدان
تعتبر ثورة المختار الثقفي امتداداً للخط النضالي الحسيني، الذي رصّع مبادئه بجواهر العطاء ورفض الظلم والجبروت، ونتيجة حتمية لانبعاث الروح النضالية عند المسلمين خصوصاً تلك التي عانت من قهر وإرهاب بني أمية.. وجزءاً من السلسلة الثورية التي عصفت في سماء الأمة، حيث توالت الثورات والانتفاضات ضد التركيبة الحاكمة لإسقاطها تحت راية "يا لثارات الحسين عليه السلام".
* المشهد السياسي:
لم يهنأ السفيانيون بملكهم العضوض بعد شهادة الحسين عليه السلام وأصحابه طويلاً، فقد توالت الثورات ضدهم في عهد يزيد وبعد هلاكه، فكانت ثورة المدينة ووقعتها الشهيرة "بالحرة" عام 63ه والتي حدثت بعد عودة وفد أهل المدينة من عند يزيد، حيث هالهم ما رؤوا من فساد الحاكم ورعيته، مما دفع عبد اللَّه بن حنظلة إلى القول: "جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلا بنيّ هؤلاء )وكان له ثمانية ذكور( لجاهدته بهم...". وبعد ذلك هلك يزيد عام 64ه، ودخل الأمويون نفقاً مظلماً، بعد أن انحسر سلطانهم تحت تأثير الانشقاق الذي حدث بينهم طمعاً بخلافته، إلى أن انعقد مؤتمر الجابية في الشام في نفس العام، فتبوأ صدارتهم مروان بن الحكم وبنوه، مؤجلاً بذلك زوالهم حتى حين... ثم كانت ثورة التوابين عام 65ه بعد هلاك يزيد، والتي دفعت الأمور نحو المواجهة المفتوحة مع الطغمة الحاكمة، بعد أن حرثت الأرض وجعلتها مهيأة للبذار المهجَّن بروحية الشهادة والتضحية من أجل المبدأ، فأضحى المناخ في الكوفة وجوارها، مناخ جهاد واستشهاد... وأما ابن الزبير، فكان صائداً للفرص ومستفيداً من الأقدار، حيث أفلت من الحصار في المدينة بعد أن حاصره مسلم بن عقبة أياماً، ولم ينجه من السقوط إلا موت يزيد.. فاستجابت له الجماهير شرط أن يخلصها من الظلم والجور الواقع عليها، بعد أن يعيد العدالة الاجتماعية التي عاشها الناس مع علي عليه السلام إلى سابق عهدها، وأن يخلصهم من الذين اشتركوا بدم الحسين عليه السلام.. لكن ابن الزبير استفزّ الناس بما ظهر عليه من مظاهر الملوك والحرص على الملك العقيم، فكانت حركته في الشكل دون الجوهر، فلم تصب بسهامها زبانية النظام السابق ممن ساهموا في مأساة الطاهرين، سيما بعد أن أصبحوا يشكلون عماد قوته في الكوفة وجوارها، فانضوى في تياره مجموعة من القتلة الكبار أمثال: شمر بن ذي الجوشن، ومحمد بن الأشعث، وشبث بن ربعي، وعمر بن سعد، وعمرو بن الحجاج وغيرهم.. ثم كان تعيين الوالي القرشي عبد اللَّه بن مطيع العدوي "الذي استلهم التجربة الراشدية في خطابه مستثنياً منها تلك المتصلة بعلي(ع)"(1). وقد روى البلاذري في أنسابه: "أن الوالي الجديد بعد توليه خطب الناس قائلاً: "إن أمير المؤمنين بعثني على مصركم وثغوركم وأمرني بجباية فيئكم... فاتقوا اللَّه واستقيموا ولأتبعنَّ سيرة عمر وعثمان، فرد عليه السائب بن مالك فقال: أما سيرة عثمان فكانت هوى وأثرة، فلا حاجة لنا فيها، وأما سيرة عمر فأقل السيرتين ضرراً علينا، ولكن عليك بسيرة علي بن أبي طالب"(2).
وهكذا كان ذلك التعيين بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وفتحت المجال واسعاً ليلتف الشيعة نحو أنفسهم، ويقوموا بحركة تستلهم "عدالة علي عليه السلام وثارات الحسين عليه السلام" شكلاً ومضموناً، عندها وجد المختار بن أبي عبيدة الثقفي الفرصة سانحة للعمل، فطلب من صهره عبد اللَّه بن عمر التوسط له عند ابن الزبير ليخرجه من سجنه، فنجح في الخروج ثم الاتصال بالإمام علي بن الحسين عليه السلام الذي اختلفت المصادر التاريخية في تحديد موقفه عليه السلام من ثورة المختار. حيث قيل أنه رفض تأييده ومباركته، ثم اتصل بمحمد بن الحنفية في المدينة ليأخذ المباركة والتأييد فنالها منه، مما ساعده على الحركة بين الشيعة في الكوفة واستمالتهم وقادتهم التاريخيين إليه، خصوصاً بعدما أبرز أمام إبراهيم بن مالك الأشتر رسالة تأييد من ابن الحنفية ورد فيها: "أما بعد فإني قد بعثت إليكم بوزيري وأميني ونجيبي الذي ارتضيه لنفسي وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي..."(3) فانضم إبراهيم بن مالك إلى المختار وبايعه بعدما تأكد من صدق الخبر والنية وهو الرجل الأقوى في الكوفة الذي كان مهاب الجانب كأبيه، ومتجذراً بتشيعه للنبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، وقطب الرحى لما تمتع به من مزايا وخصال أهّلته للإنفراد في الشخصية والموقع... فقد وصفه أبو مخنف بأنه: "فتى بئيس وابن رجل شريف، بعيد الصيت وله عشيرة ذات عزّ وعدد"(4) وقد وصف ابن الأعثم الكوفي حال الناس وهم يطلبون من المختار استمالة إبراهيم بن مالك إلى حركته قائلين: "سيد قومه بهذا المصر (الكوفة) فإن ساعدنا على أمرنا، نرجو بعون اللَّه النصرة على عدونا، فإنه رجل شريف وابن رجل شريف.. بعيد الصوت في قومه"(5)... وبذلك نجح المختار في توحيد الصف وتوجيهه نحو الهدف والشعار "يا لثارات الحسين عليه السلام".
* وقائع الثورة:
بعد أن استطاع المختار الثقفي توحيد قوى الرفض في الكوفة، تمّ الإعداد للانقلاب على السلطة الزبيرية، حيث اتفق المجتمعون على التحرك ليلة النصف من شهر ربيع الأول من سنة 66ه، وقد شعرت السلطة الزبيرية أن الشيعة يحضرون لشيء ما، خصوصاً بعد تكرار زيارات ابن الأشتر لبيت المختار. وكان على الثوار القضاء على الوالي عبد اللَّه بن مطيع ورئيس شرطته أياس بن مضارب، الذي تحرش بإبراهيم وصحبه قبل ليلة من الموعد المتفق عليه، فكانت النتيجة مقتله على يد ابن الأشتر، بعدما استطاع الأخير انتزاع الرمح من مرافق صاحب الشرطة، مما أثار الرعب في نفوس أصحابه، دون أن ينجو من تلك الحالة الوالي، الذي تربص محاصراً في قصره ثلاثة أيام، بعدما انهزمت الفرقة التي أرسلها لمقاتلة ابن الأشتر بقيادة شبث بن ربعي، ثم ما لبث أن تسلل هارباً إلى البصرة تحت أعين ابن الأشتر، الذي لم يرد كشريكه قطع عرى التواصل كافة مع ابن الزبير، لأن المرحلة تتطلب التركيز على العدو الأصلي المتمثل بالحكم الأموي في الشام، فدخل المختار إلى قصر الإمارة معلناً أنه سيسير بهدى كتاب اللَّه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله والطلب بدماء أهل البيت عليهم السلام وجهاد المحلين والدفع عن الضعفاء... وبعد أخذه البيعة من الناس، عيّن العمال في أذربيجان، الموصل، المدائن، حلوان... وأرمينيا، وحاول أن يستوعب الأشراف في حركته ريثما يرتب بيته الداخلي ويقوي سلطته بالكوفة، ثم يتفرغ لتصفية الرؤوس الكبار، دون أن يغفل عن الموالي (المسلمين من غير العرب) الذين أصابهم التنكيل والحرمان فيما مضى، فأنصفهم وجعل لهم من الحقوق مثل ما لغيرهم من عامة المسلمين، فاكتسبهم إلى صفه، لكنه بذلك أثار حنق الأشراف الذين لم يقبلوا بالواقع الجديد ومساواتهم بالموالي وكما أثار ريبة الشيعة الخلّص الذين هالهم تباطؤ المختار في الاقتصاص من رؤوس القتلة والمجرمين.
فتلاقى الأشراف في منزل شبث بن ربعي واتفقوا على القيام بوجه المختار بعد خروج ابن الأشتر إلى الموصل لملاقاة ابن زياد، وفعلاً ما إن خرج الأشتر من الكوفة ووصل إلى المدائن حتى أرسل المختار بطلبه لمساعدته، بعد أن استطاع المختار بدهائه السياسي أن يدخلهم بمفاوضات عقيمة تؤخرهم إلى حين وصول ابن الأشتر، والذي ما إن وصل حتى باغتتهم قواته وهزمتهم، فتفرقوا هاربين إلى البصرة، ملتحقين بمصعب بن الزبير. وبعد ذلك أعلن منادي المختار في الكوفة وجوارها: من أغلق عليه بابه فهو آمن إلا من اشترك في قتال آل محمد صلى الله عليه وآله، فانتقم الناس من المشتركين بقتال الحسين عليه السلام حتى قيل أنه قُتل في يوم واحد مائتان وثمانون رجلاً، دون أن تصل النوبة إلى رموز التخاذل والإجرام كعمرو بن سعد وصحبه، مما دفع محمد بن الحنفية إلى القول: "عجباً للمختار يزعم أنه يطلب بدمائنا وقتلة الحسين جلساؤه...".
* الانتقام من الرموز:
بعد أن وصل عتب ابن الحنفية إلى المختار، شمّر عن ساعديه وقرر ملاحقة الرموز الكبار وقتلهم وإرسال رؤوسهم إلى أهل البيت عليهم السلام في المدينة فبدأ بعمر بن سعد الذي كان خائفاً مذعوراً، فأرسل لقتله أبا عمرة كيسان، الذي جاءه برأسه، فعظم ذلك على ابنه حفص وكان في مجلس المختار قائلاً: لا خير في العيش بعدك، فقتله ووضع رأسه إلى جانب رأس أبيه قائلاً: "هذا بحسين وهذا بعلي الأكبر ولا سواء" وبكى، ثمّ جاء دور محمد بن الأشعث، فأرسل بطلبه ففرّ لاجئاً إلى مصعب بن الزبير، فقام المختار وهدم داره وبنى فيها دار حجر بن عدي الكندي، وذلك بعد أن هدمها زياد بن أبيه عندما كان والياً على الكوفة، لكنّ المختار قتله بواقعة "حروراء" عام 67ه. وأما خُوَلّي بن يزيد الأصبحي الذي شارك الشمر في حزّ رأس الإمام الحسين عليه السلام فقد تمت تصفيته وإحراقه، وكذا كان حال مُرّة بن منقذ قاتل علي الأكبر، فبقي الشمر بن ذي الجوشن وعبيد اللَّه بن زياد، فالأول لجأ بعد هزيمة الأشراف إلى قرية قرب البصرة، فأرسل المختار بفرقة أتته برأسه، وأما الثاني الذي ارتبط اسمه واسم أبيه بويلات العراق وفظائعه بدءاً من محنة حجر بن عدي وصحبه مروراً بمأساة كربلاء وما رافقها من قتل وسبي، وصولاً إلى ملحمة التوابين، حيث كان لهذا البيت دور الريادة في هذا المسلسل الإجرامي كله، فقد كانت نهايته على يدي إبراهيم بن مالك الأشتر عام 67هـ الذي لاقاه بجيشه على ضفاف نهر الخزر بين الموصل وأربيل، مخاطباً أصحابه "يا أنصار دين اللَّه، ويا شيعة الحق، ويا شرطة اللَّه، يا لثارات الحسين"(6)، حيث لم ينجل الغبار حتى قتل ابن زياد وكبار مساعديه أمثال: عمير بن الحباب وفرات بن مسلم ويزيد بن الحصين، وأما جنوده فمن لم يقتل بالسيف قتل غرقاً في النهر، وقد أفاد البلاذري أن من قتل في النهر كان أكثر ممن قتل في المعركة... وبذلك اكتملت البهجة بالانتقام من قاتلي الحسين عليه السلام وصحبه رضي الله عنهم، وقد ذكر أحد المحققين(7) رواية عن فاطمة بنت أمير المؤمنين عليه السلام قالت: "ما تحنأت امرأة منّا، ولا أجالت في عينها مروداً أي لم تكتحل ولا امتشطت حتى بعث المختار برأس عبيد اللَّه بن زياد إلى المدينة".
والثابت أن ابن الأشتر بقي في الموصل لتوطيد السلطة هناك، مما أفقد المختار في الكوفة حليفاً قوياً يعوّل عليه، وعزا البعض(8) ذلك إلى خلافات بين الأشتر والمختار، وربما يكون ذلك لظروف موضوعية لم يسفر التاريخ عن مكنوناتها، فاستغل مصعب بن الزبير الوضع وهاجم المختار بجيش على رأسه محمد بن الأشعث، لكنه هزم وقتل ابن الأشعث بواقعة "حروراء"، وبعد اشتداد الضغط على المختار وتأخر وصول العون من ابن الأشتر، عاد وتحصن في قصره مدة أربعين يوماً، ثمّ خرج وصحبه في ليلة الرابع عشر من شهر رمضان عام 67ه كالليوث الضواري فقاتلوا قتال الأبطال، دون أن يرضي ذلك المقدام الثقفي إلا أن يكون شهيداً، وقد روى ابن الأثير في كامله: "أن ابن الزبير قال لابن عباس: ألم يبلغك قتل الكذّاب؟ قال: ومن الكذاب! قال: ابن أبي عبيدة، قال: لقد بلغني قتل المختار، قال: كأنك أنكرت تسميته كذاباً، قال: ذاك رجل قتل قتلتنا، وطلب ثأرنا، وشفى غليل صدورنا وليس جزاؤه الشتم والشماتة". وقد شكلت شخصية المختار في التاريخ موضوعاً لكثير من الأقلام، اختلفت في وصفه، بين كونه شيعياً جذرياً مخلصاً لمبدئه وإمامه، وبين كونه امتشق التشيع سلاحاً للوصول إلى الحكم والملك، نترك الإجابة عنها إلى فرصة أخرى حول شخصية المختار وملابساتها، عسى أن يوفقنا اللَّه.
(1) د. إبراهيم بيضون، ثورة الحسين حدثاً وإشكاليات، ص114.
(2) البلاذري، أنساب الأشراف، ج5، ص221 220.
(3) تاريخ الطبري، ج3، ص438.
(4) نفس المصدر، ج6، ص15.
(5) فتوح ابن الأعثم، ج6، ص94.
(6) تاريخ الطبري، ج6، ص88.
(7) السيد هاشم معروف الحسني، ج2، ص143.
(8) د. إبراهيم بيضون، ثورة الحسين، ص124.