الشيخ حسين كوراني
* وصية الفقيه الجليل الشيخ ابن حمزة الطوسي(1) لولده
أما بعد: حمداً للَّه الكريم الآلاء، العظيم النعماء، والصلاة على نبيه محمد خاتم الأنبياء وسيد الأولياء، وعلى اله سادة الأتقياء، الأئمة الهداة النجباء، فإني أوصيك يا بني:
1- بتقوى اللَّه، والاعتصام بحبله، والتمسك بطاعته.
2- والتَّحَرُّج عن معصيته، والإخلاص في العمل بما يرضيه.
3- والتوفُّر على التفكر فيما يزيد في معرفتك ويقينك، ويعينك على أمور معادك ودينك، ويمنعك عن التورط في الشبهات، ويردعك عن التميل إلى الشهوات، ويزعك عن ركوب المحارم، ويكبحك عن التسرع إلى المآثم(2).
4- وإياك وغفلة الاغترار(3) وفترة الإصرار(4).
5- وعليك بالاستعانة باللَّه سبحانه على أمور دينك ودنياك، فإنك إن توكلت عليه كفاك(5).
6- وعليك بتلاوة كتابه في آناء ليلك ونهارك، وحالتي استقرارك وأسفارك، فإن ذلك شفاء لما في الصدور، ونور يوم النشور، ونجاة يوم تزل فيه الأقدام، وتقضى فيه الأحكام(6).
7- وعليك بالعمل بما فيه، والتنبه على ما في مطاويه، فإنه "شافع مشفع، أو ماحل مصدق"(7).
8- وعليك بسنة نبيه محمدا فإنها جلاء القلوب، واستراحة الكروب(8).
9- وعليك بما سن لك الأئمة الهداة، فإنهم إلى الجنة الدعاة، ومن النار الحماة(9).
10- وعليك بسيرة الصالحين، والاقتناص من شواردهم، والاقتباس من فوائدهم.
11- والاشتغال بنفسك عن غيرك. والتوفر على الإكثار من خيرك. وليكن ما تعرف من نفسك شاغلاً لك عمن سواك. فتحمد منقلبك ومثواك.
12- وعليك بالإكباب على طلب العلوم، فإنه أرجح ميزاناً، وأنجح أمراً وشأناً. وليس يمكنك البلوغ إلى نهايته والوصول إلى غايته فعليك بما هو أكثر فائدة، وأغزر عائدة، وأعود عليك في أولاك وأخراك، ودنياك وعقباك.
13- وعليك بالفقه، وعليك بالفقه، وعليك بالفقه(10). فإنه شرف لك في الدنيا، وذخر لك في الآخرة. ولن يتيسر لك ذلك إلا بحسن السيرة، ونقاء الجيب، وطهارة الأخلاق، والتوقي من العيب، وإقامة دعائم الإسلام. والإذعان لقواعد الأحكام والتعظيم لأمر اللَّه، فإن اللَّه سبحانه لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم مهملاً، بل خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وعلم ضمائرهم وخبر سرائرهم، وأحصى أعمالهم، وحفظ أحوالهم. واحتج عليهم بإرسال الرسل مبشراً ومنذراً، وبإنزال الكتب أمراً ومخبراً وداعياً وزاجراً، وللَّه الحجة البالغة، والنعمة السابغة، وله الحمد على نعمه. والشكر على فيض كرمه، حمداً وافياً، وشكراً كافياً.
ثم إني رأيت أن أجمع لك كتاباً في الفقه لتحفظه على ترتيب يسهل على المتيقظ الشروع في التحفظ. وقد بينته على بيان الجمل وحصرها. ونظم العقود ونثرها، وانقسام أبوابه على التمييز بين الواجب والمندوب، والمحظور والمكروه، والفعل والترك، والكيفية والكمية، على وجهٍ لا يلحقه خلل، ولا يبلغ طالبه ملل، وقد سميته ب"الوسيلة إلى نيل الفضيلة" مستمداً من اللَّه تعالى التوفيق على الإتمام، والتيسير لدرك المرام، وأن يجعل ذلك خالصاً لرضاه، فإنه لا يضيع من استكفاه، ولا يخيب من رجاه. وهو أكرم مسؤول، وأفضل مأمول(11).
(1) "هو الشيخ الفقيه المتكلم الأمين أبو جعفر الرابع عماد الدين محمد بن علي الطوسي المشهدي، المشتهر بالعماد الطوسي المشهدي، والمكنى عند فقهائنا بابن حمزة ".." والمعبر عنه بأبي جعفر المتأخر تمييزاً له عن الشيخ الطوسي، المتقدم عليه. من علماء القرن السادس، بل من النصف الثاني منه ".." قال منتجب الدين في الفهرست: الشيخ الإمام عماد الدين أبو جعفر محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي، فقيه عالم واعظ، له تصانيف ".." وقال الحر العاملي في أمل الآمل: الشيخ الإمام عماد الدين أبو جعفر محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي، فقيه عالم واعظ، له تصانيف منها: الوسيلة والواسطة. وقد وصفه جمع كثير من العلماء والمؤرخين وأصحاب السير: بأنه فقيه عالم واعظ، له تصانيف ".." وقال الطهراني في ذريعته عند ذكر "الرائع في الشرائع" و"ثاقب المناقب": توفي في كربلاء ودفن خارج باب النجف في البقعة التي يزار فيها. وفي تأسيس الشيعة لعلوم الشريعة قال السيد الصدر: لا أعرف تأريخ وفاته، غير أنه توفي في كربلاء، ودفن في بستان خارج البلد، وقبره اليوم معروف خارج باب النجف رضي الله تعالى عنه. وقال سلمان هادي طعمة بعد أن اثنى على ابن حمزة: ومرقده في الطريق العام المؤدي إلى مدينة الهندية (طويريج). ومن هذا يعلم أن وفاته مجهولة. وكتابه الوسيلة من أمهات الكتب الفقهية، استند إليه كل من تأخر عنه. أنظر: الوسيلة إلى نيل الفضيلة، ابن حمزة الطوسي المقدمة 17 23 (تحقيق: محمد الحسون، الناشر: مكتبة المرعشي قم، ط: 1 1408 هجرية).
(2) المحور هنا هو "التفكير" ويكفي في بيان أهميته في تعاليم الإسلام الحث الكثير عليه في القران الكريم، واعتباره من لوازم الإيمان كما ظهر بالتأمل في مشتقات "فكر" و"اعتبار" و"عقل" وشبهها في كتاب اللَّه تعالى. ومن الروايات حول التفكير، ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: كان أكثر عبادة أبي ذر رحمة اللَّه عليه خصلتين: التفكر والإعتبار. الشيخ الصدوق، الخصال 42. وعن الإمام الرضا عليه السلام: ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنما العبادة التفكر في أمر اللَّه عزَّ وجلَّ. الكليني، أصول الكافي 2 55.
وقد ذكر الشيخ هنا في وصيته سبع فوائد للتفكر هي: 1 زيادة المعرفة. 2 زيادة اليقين. 3 الإعانة على أمور المعاد والدين. 4 المنع عن التورط في الشبهات. 5 الردع عن التمايل إلى الشهوات. 6 المنع من ركوب المحارم. 7 الكبح عن التسرع في الماثم.
(3) المراد الغفلة الناشئة من تتالي نعمه سبحانه كما في الدعاء: وغرني سترك المرخى عليّ.
(4) الفترة مصطلح قراني. قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُل﴾ (المائدة: 19). والمراد بها المدة بين رسولين، وتستعمل في الحالة المشابهة التي يمر بها كل فرد بين حالتي توجه إلى اللَّه تعالى، من تضاؤل التوجه أو زواله، والمرء في هذه الحال معرض بنسبة كبيرة جداً للإصرار على المعصية، وهذا الإصرار هو المراد بإصرار الفترة، واللَّه تعالى العالم.
(5) يبقى حديث "الاستعانة باللَّه تعالى" مجرد كلمات تقال إلى أن يتنبه القلب إلى سوء المثوى لدى المقارنة بين حالتيه في الاستعانة باللَّه والاستعانة بغيره ممن يجزم بأن الأمر طوع بنانه، ويسأل القلب نفسه: هل أعيش لدى الاستعانة باللَّه تعالى الحالة التي أعيشها لدى الاستعانة بفلان صاحب السلطة والموقع؟ أوليس المفترض أن تكون الحالة الناجمة عن "الاستعانة باللَّه تعالى" من الثقة واليقين فوق كل حالة مشابهة!
(6) تتوقف حالة المواظبة على قراءة كتاب اللَّه تعالى، على "الأنس بالقران" وهي حالة متفرعة في بعض تجلياتها على "الأنس بالله سبحانه" ويمكن الوصول إلى بعض تجلياتها الأخرى من "الأنس بالقران" وهو بدوره متوقف على "معرفة القران" وتمس الحاجة في ذلك إلى تتبع حديث القران والمعصومين عليهم صلوات الرحمن عن كتاب اللَّه تعالى، كما تمس الحاجة إلى الرجوع إلى هذا الحديث بين الحين والآخر لتذكير النفس به، بهدف الوصول إلى "الأنس بالقران".
(7) في الكافي 2 598 عن أبي عبد اللَّه (الصادق) عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه واله: أيها الناس إنكم في دار هُدنة وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد ويأتيان بكل موعود فأعدوا الجهاز لبعد المجاز. قال: فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله وما دار الهدنة؟ قال: دار بلاغ وانقطاع فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقران فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل..". وفي معنى "شافع مشفع، وماحل مصدّق" قال الشريف الرضي: "والمراد أن القران سبب لثواب العامل به، وعقاب العادل عنه، فكأنه يشفع للأول فيشفع، ويشكو من الاخر فيصدق، والماحل ها هنا: الشاكى، ويكون أيضاً بمعنى الماكر، يقال: محل فلان بفلان: إذا مكر به.. قال الشاعر:
لنا على طول ما غشوا وما محلوا" |
ألا ترى أن هذا الناس قد نصحوا |
المجازات النبوية 307.
(8) فالقران الكريم يقودنا إليها "ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" "من يطع الرسول فقد أطاع الله".
(9) وقد أجمع المسلمون على أن القران الكريم وسنة المصطفى الحبيب يأخذان بأيدي الأمة وقلوبها إلى أعتاب العترة الطاهرة، " القربى" والذين "أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" وعدل القران الكريم والثقل الأصغر.
(10) يستفيد طالب العلم من هذه الوصية بإيلاء الفقه غاية اهتمامه، كما يستفيد منها كل مسلم بجعل معرفة الأحكام الشرعية في طليعة أولوياته، وهي الفريضة المضيعة.
(11) ابن حمزة الطوسي، الوسيلة إلى نيل الفضيلة 39 (تحقيق: محمد الحسون، نشر مكتبة المرعشي، قم 1408 هجرية).