الشيخ أحمد خشاب
ألهبت ثورة الحسين عليه السلام الروح الجهادية والنضالية في نفوس المسلمين بعد فترة طويلة عشرين عاماً من الهمود والركود والخنوع والاستسلام. فقد شعر الكثيرون بالإثم وعرفوا حقيقة الحكم المتسلط على المسلمين فابتدأت الثورات فكانت ثورة التوابين في سنة 65 وثورة ابن الزبير في مكة سنة 63ه، وثورة المختار الثائر الطالب بدم الحسين عليه السلام سنة 66هـ. ومن أوائل الثورات التي نقلها الطبري وكامل ابن الأثير والإمامة والسياسة والعقد الفريد والأغاني وغيرها ثورة أهل المدينة المعروفة بوقعة الحرة الحاصلة في شهر ذي الحجة من سنة ثلاث وستين يوم الأربعاء لليلتين بقيتا منه والتي كانت رد فعل لمقتل الحسين عليه السلام لكن الدافع لحصولها لم يكن انتقاماً بل حداً من سلطة بني أمية الظالمة.
* المدينة تخلع بيعة يزيد
اتبع ولاة بني أمية سياسة جديدة ليعود الولاء ليزيد فكان أن أوفد والي المدينة في سنة 62هـ وفداً من أهلها إلى يزيد آملاً أن يشتريهم وكان في الوفد عبد اللّه بن حنظلة الأنصاري والمنذر بن الزبير وعبد اللّه بن أبي عمرو بن حفص ابن المغيرة المخزومي وغيرهم من أشراف المدينة فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم ولما عادوا إليها قالوا قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ويضرب بالطنابير ويعزف عنده القيان ويلعب بالكلاب ويسمر عنده الخراب (أي اللصوص) وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه وقال عبد اللّه بن حنظلة الأنصاري كما في طبقات ابن سعد واللّه ما خرجنا من عند يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء... والمنقول أن المدينة ثارت وطردت واليها والأمويين وعددهم حوالي ألف رجل فتفاعلت الأمور وانفجر الوضع وابتدأ العصيان المسلح وخُلعت البيعة المفروضة ليزيد. وهاجم أهل المدينة دور الأمويين وأنصارهم والتجأ نساؤهم وأطفالهم إلى بيوت العلويين ودار الإمام السجاد عليه السلام فعاملوهم كما يعاملون أنفسهم وقد قالت النسوة إنا لم نجد مع أهلنا وفي بيوتنا معاملة كالتي وجدناها من الإمام زين العابدين عليه السلام وبقية العلويين كما في البداية والنهاية لابن كثير وقد وصل الخبر إلى الشام فانتدب يزيد أخطر مجرم وهو أعور بني مرة أي مسلم بن عقبة وكان أعور وأحد جبابرة العرب وزوّده يزيد بوصية جهنمية: "إذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حرباً فالسيف ولا تبقِ عليهم وانهبها ثلاثاً وأجهز على جريحهم واقتل مدبرهم"، كما في التنبيه والإشراف للمسعودي وأرسل معه عشرة آلاف فارس وخمسة عشر ألف راجل.
* استباحة يزيد للمدينة
قام المدنيون بحفر الخندق الذي حفره رسول اللّه صلى الله عليه وآله يوم الأحزاب فاستعصت المدينة على القوة المهاجمة إلى أن دلهم الأمويون على عورات البلد فولج الجيش إلى داخل البلد واجتمعت القوة المتبقية الرافضة للظلم والمريدة للشهادة تحت لواء عبد اللّه بن حنظلة والتحم الجيشان في معركة دامية قدم فيها عبد اللّه أولاده الثمانية واحداً تلو الآخر حتى قتلوا جيمعاً ثم قاتل حتى استشهد وكان يقول:
وجانب الحقَّ وآيات الهدى |
بعداً لمن رام الفساد وطغى |
* لا يُبعد الرحمن إلاّ من عصى
وانهزم أهل المدينة وقد قُتل ثمانون صحابياً وسبعمائة من أولاد المهاجرين والأنصار وأكثر من عشرة آلاف من سائر الناس. يروي ابن قتيبة أن عدد من قتل من الأنصار والمهاجرين والوجوه ألف وسبعمائة ومن الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان. واستبيحت المدينة ثلاثة أيام فلم يترك الغزاة حرمة من حرم الإسلام إلا وانتهكوها وإن لاذت المرأة بمحراب رسول اللّه صلى الله عليه وآله. حتى ولد في تلك السنة ألف مولود لا يعرف لهم أب كما في تاريخ اليعقوبي والبداية والنهاية. وكان الرجل من أهل المدينة بعد ذلك إذا أراد أن يزوج ابنته لا يضمن بكارتها ويقول لعله أصابها شيء في وقعة الحرة ومن حوادث التمثيل والاستباحة التي تذكر أنه دخل رجل من جند مسلم على امرأة نفساء ومعها صبي لها فقال لها هل من مال؟ قالت: لا واللّه ما تركوا لنا شيئاً قال: واللّه لتخرجن إلي شيئاً أو لأقتلنك وصبيك هذا فقالت: ويحك إنه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول اللّه فأخذ برجل الصبي فجذبه من حجرها فضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض. ودعا مسلم الناس إلى البيعة ليزيد على أنهم عبيد رق لا يملكون من أمرهم شيئاً وإلا القتل. ولكثرة ما قتل سُمي مسرف بن عقبة وسمّى المدينة التي احتضنت الرسول صلى الله عليه وآله ودعوته وناصرته في المعارك بالفتنة، كما في مروج الذهب، حتى المسجد تحول إلى اصطبل لخيولهم. لقد نفذ مسلم وصية يزيد الموصى بذلك من قبل أبيه معاوية حيث قال له: "سيكون لك يوم من أهل المدينة فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة" كما في البداية والنهاية. لقد أخذ الثأر من الأنصار والمهاجرين وأولادهم الحامين عن الإسلام الذين وتروه في أعمامه وأخواله في بدر وأحد. نعم لقد انتصرت بالظاهر العصبية والوثنية مرة أخرى وردت للإسلام ما أظهر نحوها من رحمة ورفق ساعة انتصاره عليهم في مكة ضربة قوية على الثائرين المنكرين للخلافة الظالمة.
كانت الحرة ككربلاء لكن المدينة صمدت وأعطت دروس الإباء فبقيت كما صبر آل محمد صلى الله عليه وآله وعلموا الناس كيف يكون النصر الحقيقي بالاستشهاد وكيف يظهر الحق ويزهق الباطل. وإذا بالغالب المنصور في كربلاء والمدينة أخسر مغلوب، والضارب مضروب وملعون إلى آخر الزمن، فالملك لا يدوم مع الظلم.