حكايا الشهداء
رقيّة كريمي
اشتقتُ إليك، مع أنّك لا تغادرني. صورتك دائماً في بالي. في الليلة الماضية رأيتُكَ في منامي، فاستيقظتُ عازمةً على زيارتك، دون أن تبلسم ابتسامتك المعلّقة على الجدار أوجاعي. في طريقي إليك، أرى الجميع ينحنون قليلاً، واضعين أيديهم على صدورهم، مُلقين السلام عليّ. أُكملُ طريقي إليك، ويشتدّ حنيني إليك كما يشتدّ اعتزازي بك وأنا أسمع طفلاً يسأل أباه عنّي: "بابا، من هذه؟"، فيجيبه الأب: "هي والدة الشهيد، الشهيد جسور، الشهيد البطل!".
•آياتُ الشهامة والشجاعة
فتح والدُكَ القُرآن. لم أكن أعلم أيّ اسم سوف يختار لك. كنت أتوقّع كلّ شيء إلّا هذا الاسم، ابتسم، قبَّل وجهك الصغير، وقال إنّه قرأ آياتٍ عن الشهامة والشجاعة. أنهى تلاوة الأذان في أذنك، ثمّ همس، "جسور...".
•يتفوّهون بالكلام البذيء
دخلتَ البيت باكياً. كنتُ أراقبك طوال الوقت عبر النافذة حين كان الأطفال كلّهم يلعبون، وأنت تجلس على حافة حوض ورود الحديقة صامتاً ومنزعجاً، لذلك قلت لك: "ما بِكَ جسور؟ لماذا لا تلعب مع الأطفال؟". أجبت بكلّ غضب: "لا أريد أن ألعبَ معهم. هم غير مؤدّبين على الإطلاق. دائماً يتفوّهون بالكلام البذيء".
أغلقتَ الباب خلفك بقوّة، ابتسمتُ وقلتُ في نفسي: "الحمد لله، مع أنّك كنت يتيماً، فقد ربّيتك كما كان يحبّ والدك".
•"أريد أن أكون مقاوماً"
في ذلك اليوم، دخلتُ غرفتك ورفعتُ البطانيّة عن وجهِك: "قم يا جسور"، فقمت، وقلت لي: "ماما، أريد أن أكون مقاوماً، وأشارك في الجهاد".
حاولتُ أن أقول شيئاً. تجمّدتُ في مكاني. كنتُ أريد أن أخالفك الرأي. ولكن ابتسامتك لم تسمح لي. أخذتَ يدَيَّ وقلتَ: "ماما، الظروف في المنطقة ليست عاديّة هذه الأيّام. الجبهة اليوم بحاجتي، ربّما تُحتلّ قريتُنا".
عندما تركتُ غرفتك، كنتُ أرتعد. شعرتُ بأنّني سأفقدك قريباً. بكيتُ ونظرتُ إلى صورة والدك على الجدار وقلت له باكية: "هل تصدّق؟ ابننا الصغير كبر.. ويريد أن يحمل السلاح!".
•رائحة الطعام تغزو الحيّ
دخلتَ المطبخ وحضنتني من الخلف.. وقبّلتني وكنتَ ترى ماذا أطهو. طلبتَ منّي أن أطهو كميّةً أكبر. ضحكتُ وقلت: "تريد أن تأكل أكثر من هذا؟". ضحكتَ وحرّكتَ شعرك الناعم وقلت: "لا ماما، لقد ملأت رائحة طهوكِ الحيّ كلّه، وأنتِ تعلمين أنّ جارنا فقير جدّاً. كيف أستطيع أن آكل وهو يشمّ رائحة طعامنا؟!".
•"لماذا تألّمتَ بصمت؟"
لم تسمح لي أن أغسل بدلتك العسكريّة. رأيتُك تغسلها بيديك. تعجّبتُ. قلت: "ماذا تفعل ماما؟ أنا أغسلها لك"، فلم تقبل.
وقت الصلاة، كنتَ تعاني من ألمٍ في قدميك. كدتَ أن تصرخ أثناء السجود، لم أكن أعلم ما بك، لم أكن أعلم لماذا لم تكن تستطيع أن تمشي جيّداً. لماذا لم تخبرني يا جسور؟ لماذا تألّمتَ بصمت؟ كيف يمكن تحمُّل هذا الألم كلّه وأن تبتسم بالرغم منه؟ كيف لم أدرك أنّ بدلتك التي تغسلها في الخفاء مدماة؟ كيف لم أدرك أنّك جريح، وأنّ الأمر ليس كما قلتَ لي. لم يكن بسبب الشاي الساخن الذي انسكب على قدمِك. وعلى الرغم من ذلك، لم تكن تسمح لي برؤيتها.
•مزاحٌ قاتل
في ذلك اليوم، وكما في كلّ مرّة، حضنتني، وقبّلتني، ففاضت حواسي برائحة عطرك. وضعتُ يدي على صدرك وقلتُ لك: "أعرف أنّك شجاع وجسور، ولكن أرجوك انتبه لنفسك. في أمان الله ماما". ضحكتَ وقلت: "لا تقلقي. لن أعود هذه المرّة إلّا شهيداً". أيّ نوع من المزاح هو هذا؟! كادت هذه المزحة أن تقتلني! مضيت، فيما أنا واقفة أمام الباب أراقبك. وكنتَ كلّما مشيت قليلاً تتوقّف، فتلتفت برأسك إلى الخلف وتتأمّلني وتضحك، ثمّ تمضي من جديد، إلى أن غبتَ عن ناظريّ. وأنا في كلّ مرّة كنت أموت وأحيا وأضحك وأبكي.
•عيونٌ صامتة
كانت أصعب ثلاثة أيّام في حياتي. كان قلق العالم بأكمله يعيش في قلبي. لم أكن أستطيع النوم. كنتُ أتنقّل بين الغرف كالتائهة. أذهب إلى خارج البيت. أراقب الطريق بانتظار قدومك. وكنت كلّما التقيتُ بأحد من الجيران أبتسم. لم أكن أحبّ أن يعلم أحد أنّني قلقة عليك. تجمّع الكثيرون عند الباب. استغربتُ سبب ذلك. لم ينطق أحد بكلمة. فهمتُ كلّ شيء من عيونهم الصامتة. وعندما سألتُ: "ما الذي حصل؟" بدأ الجميع بالبكاء!
•"أحمد الله أنّني لم أره"
كنتُ دائماً أشاهد التلفاز لمتابعة أخبار الحرب. ولكن لماذا لم أرَ التلفاز في ذلك اليوم، ولم أرَ مقطع الفيديو المسجّل؟! الناس كلّهم شاهدوه... علمت لاحقاً أنّ التكفيريّين كانوا يدوسون عليك، كانوا يركلونك، ويصرخون بأعلى أصواتهم: "قتلنا أحد قادة حزب الله!".
"أنا لم أرَ ذلك كلّه، ولا أحبّ أن أراه. أحمد الله أنّني لم أشاهد ذلك المقطع. لا أعلم ماذا كنت سأفعل حينها؟!".
•"يا ليتني كنتُ معك"
سمعتُ من أصدقائك أنّ أحد رفاق الجهاد قد أُصيب، فلم تستطع أن تنسحب من دونه وتتركه. وصلتَ إليه تحت النيران. وصل المسعفون إليه وسحبوه بصعوبة، بينما أنتَ لم تستطع أن تنسحب. بقيتَ في ذلك المكان وحدك. لا، لم تكن وحدك، بل كان الله معك. كنتَ خلف الجرّافة طوال الليل، وكنتَ تعلم أنّه في اليوم التالي سيختفي هذا الهدوء كلّه. بمَ ناجيتَ ربّك في تلك الليلة يا بنيّ، وأنتَ تشاهد النجوم والقمر للمرّة الأخيرة؟ هل كنت تردّد الجملة نفسها التي كنتَ تردّدها دائماً في البيت: "يا ليتني كنتُ معك؟".
•انتهى انتظاري
كنتُ أنتظرك عند الباب. لم أكن وحدي، بل أهل القرية كلّهم كانوا بانتظارك. وها أنت تعود إلى البيت نائماً، محمولاً على أكُفّ الشباب، وقد غطّاك العلم الأصفر. كم شهراً انتظرتُك؟ لا أدري. كلّ ثانية مرّت كأنّها ألف سنة! كنتُ ميّتةً طوال فترة انتظارك. انتهى انتظاري، وهدأ روعي. كنتُ أتساءل: "أين هو قبرك يا بنيّ؟"، أحبّ أن أجلس عند قبرك وأبكي بجانبك. والآن عُدت شهيداً. وأخيراً رأيتك. رحتُ أنثر الورد الأحمر على نعشك والأرزّ. كنتُ أبكي وأرحّب بك: "أهلاً وسهلاً ماما. لقد بيّضتَ وجهي عند السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام. الآن أواسي فاطمة الزهراء عليها السلام بك".