حسن ركين
لم تقدر حجارة بعلبك المعلّقة بين الأرض والسماء أن تمنع أشعة الشمس من الوصول إلى أرض البقاع الخصبة، منبت الزرع الكبير والخير الوفير ومصدر العيش لثلثي أهل الأرض، كما وإن الهياكل العملاقة والتماثيل الحجرية عجزت عن احتواء الناظرين إليها وجذبهم رغم منظرها الأخاذ وهندستها الباهرة، وبقيت هذه الأرض صلبة قوية تقاوم جبروت الرومان والبيزنطيين وتقف في وجه العتاة والظلمة فهي التي استقبل أهلها السبايا في العام 61 هجرية، وهي التي تتالت عليها الممالك والإمارات من الأمويين والعباسيين والأخشيديين والحمدانيين والفاطميين والبوريين والزنكيين والأيوبيين والتتار والمماليك والأتراك والانتداب الفرنسي وما زالت هذه الأرض تدفع ضريبة ممانعتها حتى اليوم من البؤس والحرمان.
* دخول الإسلام إلى البقاع:
بالنسبة إلى تاريخ البقاع وبعلبك، فقد ذكرت هذه المنطقة وأحوال أهلها في كثير من كتب التاريخ المعتبرة، كالمقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" والقزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد"، وشمس الدين الدمشقي في "نخبة الدهر"، وياقوت الحموي في معجمه، وابن حوقل في مسالكه، والقلقشندي في "صبح الأعشى" وغيرهم الكثير من أرباب التاريخ. وأما دخول الإسلام إلى المنطقة فيرجع على الأرجح إلى العام 14 هجرية عندما فتحت المنطقة بوجه المسلمين، وتوطدت علاقة أهلها بالإسلام بعد أن نفي الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري إلى جوارها. وبه تمسك أهل بعلبك والبقاع أكثر فأكثر بالإسلام وبولاية أمير المؤمنين عليه السلام... المؤكد بأن بلاد البقاع قد دخلها التشيع في وقت مبكر وتشهد بلدة الكرك على ولادة أول حوزة دينية في لبنان ومشرق المتوسط في القرن الأول الهجري، ومنها تخرج ودرس الكثير من العلماء من كافة الطوائف والمذاهب، فهذا الأوزاعي قد درس فيها مدة من الزمن قبل انتقاله إلى الساحل، وكان قد زارها الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري... ولا يمكننا في هذه العجالة ذكر المحطات التاريخية لهذه البلدة التي لعبت دوراً كبيراً في بث العلم والوعي ونشر مبادئ الدين الحنيف. ومن مدينة الهرمل التي تقع شمال البقاع على كتف نهر العاصي موزعة على ثلاث تلال بينها البساتين والمروج، خرج الكثير من العلماء والفضلاء، وهي اليوم كتاريخها سباقة في تقديم فلذات القلوب ذوداً عن الوطن.
* العلماء في البقاع
عرف البقاع الكثير من العلماء والنوابغ الذين شاع ذكرهم في الخافقين، والذين أثروا العلم والمكتبة الإسلامية بالكثير من التأليفات والشروحات لا سيما مدينة بعلبك والهرمل ويونين ذائعة الصيت بأبنائها العلماء من آل زغيب، وكرك نوح صاحبة أول مدرسة دينية علمية في المشرق. واختصاراً للمقال سوف نكتفي بذكر بعض المحطات من تاريخ ثلة من العلماء الأعلام، منهم:
المحقق الكركي (868هـ - 940هـ): هو نور الدين أبو الحسن علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي المعروف بالمحقق الثاني والمحقق الكركي وبالشيخ العلائي. وقد ذكره أصحاب التراجم بأعلى الصفات والمحامد، في أمل الآمل، ونقد الرجال للتفرشي ونظام الأقوال للقرشي وأوائل البحار للمجلسي وأعيان الشيعة للأمين وروضات الجنات وغوالي اللآلئ للجزائري... وقد تتلمذ على يد المحقق الكركي عدد من العلماء وربّى في مدة يسيرة ما يزيد على أربعمائة مجتهد، وقد فاقت مؤلفاته الثلاثين مؤلفاً ما بين تحقيق وشرح وحاشية ورسالة...
* الشيخ بهاء الدين العاملي (953ه 1030هـ):
"هو الشيخ الأعظم والوالد المعظم والإمام العلامة وملك الفضلاء والأدباء والمحدثين بهاء الملّة والحق والدين..." على حد قول العلامة المجلسي. ولد الشيخ محمد بن الحسين بن عبد الصمد العاملي الجبعي في بعلبك يوم الأربعاء في 27 محرم 953ه وقد كان والده العلامة الكبير الشيخ حسين بن عبد الصمد من كبار علماء جبل عامل حيث هاجر إلى بعلبك وسكن فيها قبل ولادة الشيخ البهائي بسنوات. تتلمذ الشيخ البهائي على أيدي كبار علماء عصره كوالده الشيخ حسين عبد الصمد والشيخ عبد العالي الكركي والشيخ أبي اللطيف المقدسي وغيرهم الكثير. وكذلك تتلمذ على يديه عشرات المجتهدين والعلماء لا يسعنا ذكرهم في هذه العجالة. وللشيخ البهائي ما يزيد عن 65 مؤلفاً في الفقه والأصول والأدب والعلوم والهندسة. وهو كان بمثابة موسوعة كبرى. سافر إلى إيران وتوفي في أصفهان عام 1030هـ ثم نقل جثمانه الطاهر إلى المشهد الرضوي.
* الشيخ محمد الحر المشغري المعروف بالحر العاملي (1033ه 1104هـ):
ولد في مشغرة، ومنذ صغره تتلمذ على عشرات العلماء من نوابغ عصره، وله فضائل ومناقب لا تحصى، وهو علم لا تباريه الأعلام وهضبة فضل لا يفصح عن وصفها الكلام، أرجت أنفاس فوائده أرجاء الأقطار وأحيت كل أرض نزلت بها فكأنها لبقاع الأرض أمطار، تصانيفه في جبهات الأيام غرر وكلماته في عقود الطور درر من كتاب سلافة العصر. توفي بطوس بجوار المشهد الرضوي ودفن في إيوان الصحن الشريف. بالإضافة إلى تصنيفه وسائل الشيعة وأمل الآمل له العشرات من التصانيف والمؤلفات، والتي أغنت المكتبة الإسلامية بالعديد من العلوم والفنون.
* الشيخ حبيب آل إبراهيم (1304هـ - 1384هـ):
كان عالماً فاضلاً فقيهاً وهو بمثابة الأب والمرجع للشيعة في بعلبك والبقاع وبعض القرى السورية،ولد في قرية حانويه العاملية، ودرس في بداية عمره في عين بعال وبعد التحصيل على أيدي بعض العلماء قصد النجف الأشرف 1028ه وبعد تحصيله ونتيجة الحرب عاد إلى لبنان ثم رجع إلى العراق يعمل في حقل الجهاد والعطاء ومقاوماً للانتداب الإنكليزي. ولعب دوراً كبيراً في مقاومة حركات التبشير البروتستانتية في منطقة العمارة في العراق. عندما زار لبنان عام 1932م، التقى وفداً من بعلبك أيام عاشوراء، وطلبوا إليه أن يقيم بينهم، وقد لبى طلبهم، فأعطى بعلبك ثلاثاً وثلاثين سنة من عمره وعلمه وما بخل بشيء. وقد فاقت مؤلفاته الخمسة عشر مؤلفاً ولبعضها صدى كبير في العمل على توحيد المسلمين، ولا ننسى شاعريته التي ظهرت في مدحه للمصطفى وآله صلى الله عليه وآله وفي الملاحم والمواعظ.
* الشيخ علي النقي زغيب اليونيني (1284هـ - 1356هـ):
كان عالماً فاضلاً وأديباً شاعراً، درس في بداية عمره على يد والده الشيخ حسين ثم انتقل إلى حانويه حيث درس بمدرسة الشيخ محمد علي عز الدين، وبعد ذلك انتقل إلى دمشق والتحق بمدرسة الفرج الخطيب، وفي عهد الانتداب مارس مهنة التدريس، وبعد إعلان دولة لبنان الكبير سعى إلى إقامة دار إفتاء خاصة بالشيعة، حيث لم يكن هذا الدار موجوداً من قبل بسبب رفض العثمانيين، باستثناء ما كان يقوم به الأمراء الحرافشة من تعيينهم لعلماء جعفريين لمواكبة القضاء والإرث وما شاكل. وبالفعل ففي عام 1926م، أعلن عن قيام دار إفتاء رسمي للشيعة في بعلبك، وكان الشيخ علي النقي زغيب هو أول مفتٍ رسمي للشيعة في مدينة بعلبك. وغير هؤلاء علماء كثيرون طواهم الزمن لم يسمع بهم الناس مع جليل خدماتهم في تعليم الناس وتهذيبهم وحمل راية الهدى وشريعة سيد الورى، وكم نحن اليوم بحاجة إلى التعرف على حالاتهم وبيان آثارهم حيث أن هذه المنطقة ورغم ما تعرضت له على مدى القرون من الحالة العدائية حيث تعاقب على حكمها سلاطين جور وتعسف، وكان الدين جزيرة في محيط لم يحاول أهله تفهمه، فلاقت الويلات من الغزاة الصليبيين وغيرهم، فقد نبغ الكثير من العلماء الذين خدموا هذه الشريعة الغراء خاصة في بلدات كرك نوح وبعلبك ونحلة ويونين والهرمل، وهم من عدة عوائل كآل الكركي ومحفوظ وزغيب والحسيني والحر والبعلبكي والموسوي ونجم الدين وغيرهم الكثير ممن لا يسعنا ذكرهم. البقاع هذا كان وما يزال مخزناً للعلم ومعدنا للشهداء الكبار الذين لهم الفضل في تحرير جزء كبير من الجنوب اللبناني في أيار 2000م، كيف لا وسيد المقاومين وأستاذ الاستشهاديين سماحة السيد عباس الموسوي خرج من داره من البقاع ليسكن في الجنوب بالقرب من ساح الوغى وليرتفع شهيداً من أرضها مما زاد في تقديس التراب العاملي وأنار شعلة الثوار بمداده ودمائه، فأضحى سيد المجاهدين وسيد الشهداء وسيد الوطن، كل الوطن...
أهم المصادر والمراجع:
تاريخ كرك نوح للدكتور حسن نصر اللَّه.
روضات الجنات: لمحمد باقر الخوانساري.
لؤلؤة البحرين للشيخ يوسف البحراني.
طبقات أعلام الشيعة لآقا بزرك الطهراني.
سلافة العصر لعلي خان المدني.
تاريخ بعلبك للدكتور حسن نصر اللَّه.
أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين.
شرح عوالي اللآلئ للعلامة الجزائري.
تاريخ دمشق لابن عساكر.
معجم البلدان لياقوت الحموي.
وغيرها...