مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

اعرف عدوك‏: إحياء الحضارة الفلسطينية المغيَّبة

حسن زعرور

 



عاد الجيش بسلام‏
وقد دك القرى ذات الحصون‏
عاد الجيش بسلام‏
بما وجده من كرم وتين‏
عاد الجيش بسلام‏
وبالنار ابتلى كل القصور
عاد الجيش بسلام‏
وقد قتل ... من الألوف‏
وكم أسراه من جمّ غفير(1)


يتحدث "أوتي" وزير الفرعون "بيبي الثاني" (2250ق.م) في نشيده هذا عن حملة مصرية على فلسطين كللت بالنجاح. وما يعنينا في نشيده تلك الصورة التي كان عليها الشعب الفلسطيني أثناء الحملة أي منذ ما يزيد على أربعة آلاف سنة، ونجد في النشيد وصفاً لدولة لها جيش قوي، وحصون دفاعية إضافة إلى القصور وكروم العنب والتين، وذلك دليل على وجود مجتمع فلسطيني حضاري يضاهي المجتمع الحضاري المصري والبابلي، ويسبق الوجود اليهودي بقرون.

* محاولات لتحويل الأنظار عن الحضارة الفلسطينية
إن مشكلة فلسطين الأساسية موقعها الجغرافي، والذي جعلها ممراً للغزاة حقبة طويلة من الزمن يتجاذبها الصراع الدائم بين مصر وبابل، فلا تكاد تفلت من واحدٍ حتى تعلق بين براثن الآخر، بحيث أنه لم يتح للبناء السياسي فيها إقامة كينونة مستمرة، ورأينا في نشيد "أوتي" بعضاً مما كان يحيق بها من دمار وتخريب، هذه الصورة السلبية لا تلغي حقيقة إيجابية تتعلق بتفاعل الحضارات المتلاقية فوق التراب الفلسطيني، ونمو التطور والمعرفة داخل المجتمع من جراء التمازج الحاصل. واتساع أفق البيئة الفلسطينية بما يصلها من علم وثقافة، بحيث أن دخول الفرقة الإيجية "البالستي" إليها دمج حضارتين شرقية وغربية "وتوافرت للفلسطينين فرصة إنشاء امبراطورية من الطراز الأول، أقامت سداً أمام الهجرة العبرانية القادمة من الجبال"(2). إن قيام دولة يهودية في عصرنا الحالي أوجد منحيين تاريخيين موجّهين من قبل اليهود لدى كتبة التاريخ، الأول يؤرخ من حدود النكبة عام 1948 وما بعدها، تجرفه الأحداث العسكرية المتسارعة، والثاني ينبش فُتات التاريخ اليهودي دون سواه على أرض فلسطين، في محاولة يائسة لخلق جذور يهودية هناك، والتوجيه المبرمج والضجيج المفتعل حوّل الأنظار عن تراث الحضارة الفلسطينية القديم، لقد كان اليهود بدواً رعاة كما قال إخوة يوسف (تكوير 46) فلما قدموا مع موسى إلى فلسطين إغترفوا من الحضارة الفلسطينية وادّعوها لأنفسهم "لأن الكنعانيين كانوا وسطاء للحكمة المصرية وكان لهم تقاليد دينية وترانيم خاصة بهم سرقها اليهود لديانتهم"(3).

* ثوابت حضارية فلسطينية في المكتشفات الأثرية
إن مفهومي الزمان والمكان متلاصقان سياسياً وتاريخياً وهو أمر حتمي يُلْزِم الحدث عند التدوين الخضوع لمصداقيته، وبقدر ما نجد من ثوابت حضارية فلسطينية معززة بالزمان والمكان في المكتشفات الأثرية، بقدر ما تفتقد التوراة لذلك، لقد حدَّدت التوراة وعلى سبيل المثال عمر الإنسان بستة آلاف عام، مع أن أريحا التي تعتبر أول مدينة مسوَّرة في التاريخ أقيمت قبل ستة آلاف عام، إن ذلك وسواه يلزمنا ضرورة الفصل نهائياً بين الحضارة الفلسطينية ومصداقيتها، وتدوينات التوراة التاريخية التي لا تملك مصداقية الزمان ولا المكان، وهي "ليست إلا قصصاً خيالية" كما يقول لنش، وبدل أن يكون التاريخ التوراتي هو المؤشر للحدث التاريخي العليل، علينا أن نعيد استعمال مصطلح فلسطين كمؤشر صادق لتحديد الزمان والمكان للحدث التاريخي، معتبرين أن المرحلة اليهودية كانت نزعة عابرة كسواها من المراحل الكثيرة التي مرَّت فوق الأرض الفلسطينية "لأن مصطلح فلسطين كان موجوداً ومستعملاً منذ الفترة الآشورية في المنطقة بينما مصطلح أرض إسرائيل استعمل لفترة قصيرة وفي حيّز ضيق"(4). إن اقتباس كلمة "بالستي" للاستدلال الحديث عن المكان لا يلغي جذور الزمان الحضارية للشعب الفلسطيني كنعانياً كان أم أمورياً أم غير ذلك، وتراث الأمم لا يزول كما الدهر، وغلبة استعمال الاسم للدلالة لا يعني إبادة كاملة لشعب، لقد ادَّعى اليهود على سبيل المثال انتصارات ليشوع يستشف منها أنه لم يبق فلسطيني بعدها فوق الأرض الفلسطينية، غير أن الحقائق التاريخية والتوراة الحالي نفسه اعترف مرغماً أن يشوع مات في الجبال الفلسطينية، وأن اليهود بعده "سكنوا وسط الكنعانيين والحثيين والآموريين والفرزيين والحويين"(5) أي أنهم خضعوا للشعب الفلسطيني بعكس ما ادعوه، ومع ذلك لا تزال صورة انتصارات يشوع مسيطرة على الفكر التأريخي المعاصر، لأن السجل التاريخي مأخوذ عن التدوين اليهودي رغم كثرة الأخطاء التي تفتقد مصداقية الزمان والمكان معاً.

* استلاب اليهود للحضارة الفلسطينية
إن الغزو والاحتلال كان دائماً نشاطاً متداولاً بين الأمم، غير أن الغازي والمغزّو على حدٍ سواء، كانا ملزمين بمسألتي البقاء والاستمرارية، وكان المهزوم يلتصق بحضارة المنتصر في حتمية حفاظه على بقائه ووجوده وفي التاريخ أمثلة كثيرة، ورأينا من التوراة نفسه كيف التصق اليهود مراراً بالفلسطينيين يأخذون من حضارتهم ويسكنون بينهم، لقد وصف التوراة هؤلاء الفلسطينيين بأنهم "أبناء الآلهة" و"قوم الجبارية" وهو وصف الإنسان الدوني للإنسان الفوقي، في دلالة على المستوى الاجتماعي لكليهما، فالفلسطيني ابن الإله في ذلك الزمن بنظر اليهودي، يعكس عبودية اليهودي والانسحاق الاجتماعي الخلقي له، خصوصاً إن علمنا أن هذا الوصف لم يكن ابتداعاً يهودياً، ولكنه نقل حرفي عن الأمم الأخرى التي كانت تنظر للفلسطيني كإنسان نبيل شبه إله، ولليهودي لاحقاً كإنسان وضيع يعمل في الخدمة ورعاية الماشية "وتخبرنا اللوحات 124-123-122-121 المكتشفة في رأس شمرا "أن الرفيئيم هم علونيم" بمعنى أنهم جبابرة وآلهة"(6)، لقد علق اليهود بالحضارة الفلسطينية كما العابد، فحضارة الآلهة الفلسطينيين أحق أن تحتذى، والفكر العبودي اليهودي في ذلك الزمن لم يكن يمتلك فكراً حضرياً تطورياً لذا رأيناه يقتبس عن الفلسطينيين، ثم يدّعي بعد ذلك بألف عام أنها حضارته من مثال المزمور 68 لداود، والذي هو نسخ كامل لعبادة الفلسطينيين في هيكل طابور(7)، وسواه، ويقول أدمون جاكوب(8) في هذا المجال "إن ما سَهَّل للعبرانيين التعبير عن أفكارهم وديانتهم أنهم وجدوا لدى الكنعانيين كتابة سهلة الاستعمال، ومدارس وكتبة وحكمة ونماذج أدبية" وعليه لم يكن لدى اليهود وازع عن استلاب تلك الحضارة لأنفسهم من خلال الحدث الزماني، والادعاء بعد قرون أنها حضارة يهودية، ويخبرنا فيلون الجبيلي (42م) عن السر فيقول: "أن اللاهوتيين الحديثين (اليهود) قد أتلفوا كل أثر للأمور التي حدثت عن أصول الأشياء وذلك باختراع الاستعارات(!!)، لقد نشروا ظلمة كثيفة بحيث لم يعد من السهل تمييز الواقع"(9).

* إعادة كتابة تاريخ الحضارة الفلسطينية
إن تمييز الواقع في زمن فيلون الذي كان يعيش بين اليهود آنذاك لم يكن سهلاً، لعله الخوف على نفسه، ولكننا قادرون اليوم بما نملكه من تطور من إعادة الحقيقة إلى عرينها، وأهم ما يظهر الحقيقة التاريخية هو الأثر التاريخي الذي غفلت عنه الظلمة التي يصفها فيلون، والمكتشفات الأثرية باتت تظهر تباعاً طاهرة لم يمسّها يهودي، يمكن لنا من خلالها بالصبر والمثابرة إعادة كتابة تاريخ الحضارة الفلسطينية المغيَّبة مدماكاً مدماكاً، لنعيد بناء صرح تلك الحضارة العظيمة، مستندين على مصداقية الزمان والمكان لا على ادعاءات التوراة المحرّفة، ويمكن لنا أن نبدأ "من المدن الفلستية الصغيرة في سهول فلسطين والتي تشكل الوريث والخلف لنظام دول المدن الكنعانية"(10) لأن التاريخ الكنعاني منذ نشأته وامتداداته هو: "مقدمة تاريخ فلسطين كاملاً"(11).


(1) الوطنية في الأدب المصري القديم ص‏202، د. أحمد يوسف.
(2) مملكة إسرائيل آلت.
(3) الأمثال والآداب السامية، ص‏319 ، ستوري.
(4) أبحاث دافيز التاريخية.
(5) سفر القضاة، إصحاح 3.
(6) رأس شمرا والعهد القديم، أدمون جاكوب.
(7) أوزيب 260م، نظرية التكوير، يوسف الحوراني.
(8) أدمون كاجوب، أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة ستراسبورغ.
(9) نظرية التكوير عن ترجمة فيلون الجبيلي، يوسف الحوراني.
(10) مملكة إسرائيل، آلت.
(11) كامبردج والتاريخ اليهودي، بالي.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع