إعداد: زينب الطحان
في مقال كبير ومفصل لهما في مجلة "NEWS WEEK" الأميركية في عددها الصادر في 28 تشرين الثاني 2003، تحت عنوان "ضائع في متاهات الترجمة" يعتبر الصحافيان دانييل كلايدمان ومايكل إيسيكوف أن أحد فصول المعركة بين صراع الحضارات هو "الحرب الاستخباراتية" حيث يقول المقال: "يدور رحى صراع الحضارات في أمكنة غير متوقعة، ومنها تلك الغرفة الرحبة لمكتب التحقيق الفيدرالي (أف.بي.إي) الميداني في واشنطن العاصمة، والذي تشغله وحدة يطلق عليها (سي أي 19)".
يضيف الكاتبان: "ففي جزء من المكان يجلس المسلمون الذين ولدوا في بلدان أجنبية، وعلى الطرف الاخر من الحاجز يجلس بقية الموظفين. والجميع هناك له مهمة واحدة حيوية وهي ترجمة أشرطة تسجيل في غاية السرية لإرهابيين مشتبه بهم وجواسيس. لكن العاملين في مكتب "سي أي 19" للاستخبارات المضادة والبالغ عددهم مائة وخمسين شخصاً تقريباً يفصلون أنفسهم على أساس الدين والعرق". وهذا الفصل على ما يبدو يؤدي إلى خلق مشكلات كبرى وعقيمة الحل أمام موضوع حل شيفرة اللغات واللهجات العربية والفارسية المترجمة إلى الإنكليزية. هذا بالإضافة إلى أن بعض المترجمين المسلمين من مواليد الولايات المتحدة يتهمون نظراءهم من الشرق الأوسط بأنهم يسيئون الترجمة وذلك بالاستنكاف عن ترجمة بعض التعليقات التي قد تسيء للمسلمين، وهذه الأحوال من التوتر تبرز على شكل تلاسن وتراشق اتهامات بين الجانبين، وتقول "سبيل إدموند" مترجمة للغة الفارسية ممن عملوا في المكتب سابقاً: "من حسن الحظ أنه لا يسمح للمترجمين بحمل السلاح".
هذه صورة يقدمها الكاتبان عن مجريات هذا الصراع بين أهل الهوية الواحدة المتمزقي الانتماء، ولكن كيف هو الحال بين أهل هوية الغرب الذي يحرص شديد الحرص على قطع دابر أي خطط تحيكها تنظيمات ما يسمونه بالإرهاب مستهدفة الولايات المتحدة؟ إنهم يتخبطون بالحيرة والحذر والخوف... فمنذ الحادي عشر من أيلول العام 2000، "قدم الكونغرس، تحدوه الإنذارات بالخطر التي أطلقها وزير العدل (جون أشكروفت)، البلايين من الدولارات لدعم الحرب على الإرهاب وتجنيد القوى البشرية لذلك، بمن فيهم المترجمين من لغات أجنبية". إذ يقول الإعلان المنشور على موقع ال"أف.بي.أي" الالكتروني طلباً للمساعدة: "تناشد جميع اللغويين... لخدمة وطنك". وقد حقق مكتب الاستخبارات تقدماً في هذا الجانب: فقبل 11 سبتمبر كان لديه 40 مترجماً للَّغة العربية و25 مترجماً للفارسية ينقلون للإنجليزية تسجيلات التنصت لأهداف الأمن القومي، أما اليوم فيزعم المسؤولون أن هناك 200 مترجماً من العربية و75 مترجماً من الفارسية يعملون في هذا المجال. ومع ذلك فإن هذا العدد لا يكفي إجمالاً حيث تقول مصادر مطلعة إنه يسجل كل أسبوع مئات من الأشرطة عبر الوسائل السرية تتكدس في خزائن المكتب السرية، وتنتظر أحياناً ليتم ترجمتها، ولا يعود السبب في بطء العمل إلى قلة المال بل الحذر الأمني لل"أف.بي.أي"، إذ أنهم يعانون من أزمة الولاء لأميركا، لذا كان اختيار الولاء قاسياً. "لقد انسحب العشرات من اليهود الشرقيين الناطقين بالعربية من منطقة بروكلين في نيويورك عندما طلب منهم التخلي عن جنسيتهم الإسرائيلية. فيما التدقيق في خلفية المتقدمين ممن عاشوا سنوات خارج البلاد كان صعباً واستغرق وقتاً طويلاً". وإن كان يصل لدرجة الهواجس، وكذلك تعقد الإجراءات البيروقراطية، وثالثاً حسب النقاد وجود بقايا ثقافة تفضيل مواليد أميركا في التوظيف.
حين أطلق مونتيغمري نظرية "صراع الحضارات"، دفن بيدين تغمرهما العنصرية البغضية طيناً من التفاعل الكبير والعميق والشامل من عشرين قرناً بين حضارتي الشرق والغرب، وخلق صراعاً بين لغتين قامتا على خلق العالم القديم والحديث، باختلاف الدور والهدف، وقولب منه هامات "بشرية" تتبجح بانتمائها للغرب المتفوق تكنولوجياً، وتسقط على الآخر "الشرقي" المتأخر عنها في عدد الخطوات وسرعتها ونوعيتها، صوراً بشعة من الصفات "اللاإنسانية". وهذا الخطأ الفادح الذي يقع فيه الغرب والغربيون، منذ سنوات طوال حين يعتبر فعلاً أن المعركة تحتكم إلى مقولة "صراع الحضارات"، في حين أن الحقيقة تكمن في الروح العدائية التي كونها المستشرقون خلال القرون الماضية الاستشراق هذا المفهوم الذي، أعطى صورة مزيفة تماماً عن المشرق العربي، حيث أسبغ لسنوات طوال خلقاً صورياً عن بلادنا أمام العالم الغربي، والذي اعتمد على ترجمات عدة شوَّهت الكثير من الحقائق والآثار العلمية واكتشافاتها، والتي نسبت فيما بعد إلى علماء غربيين... تشعر وأنت تقرأ المقال من خلال ما يجري خلال هذه الحقبة أنهم يحاولون إعادة "استشراق" جديد، ليولدوا فهماً جديداً يساعدهم على سبر أغوار مفاهيم الشرق وتقاليده، إذ أن الاستشراق القديم، زودهم برؤى خاطئة عن الشرق والشرقيين وعن الإسلام والمسلمين...
وها هم اليوم يقومون بتعلم السباحة في عالم اللغة العربية علَّهم يفكون رموز أفكارنا ومفاهيمنا، التي يستصعبون التعامل معها إلى أبعد الحدود... فربما قد تبدأ رحلة استشراق جديدة!!! خصوصاً أن هناك نزعة لدى العديد من عملاء ال"أف.بي.أي"، للاعتقاد بأنه في أجزاء من العالم تعد رابطة الدم أقوى من شهادة الجنسية. وهناك انطباع عام بأن العلاقات السرية والولاءات القبلية أهم عند العرب الأميركيين مقارنة بالأمريكي الذي فقد علاقاته بالعالم القديم منذ أجيال. في حين يؤكد جون فنيسيت العميل المتقاعد: "إننا لا نحتاج إلى عملاء مسلمين في ال(أف.بي.أي)". ولعل ما يؤكد تصميم الغرب إلى إعادة إحياء مفهوم الاستشراق بأساليب جديدة من البحث هو ما يقوم به حالياً من تدريب جنوده من أبناء الوطن الأميركيين على تعلم اللغة العربية ولهجاتها وكذلك الفارسية. ولكنه مهما فعل فإن التباين الثقافي في الغالب بين المعلمين العرب "المتخلفين" والتلاميذ "الأميركيين" المتحضرين يبقى شاسعاً وتحكمه عدم الثقة. وما يعزز هذا الاتجاه أنه ليس فقط عملاء ال"أف.ب.أي"، هم الوحيدون في الحكومة ممن يصمون اذانهم عن الحساسيات العربية. فقد أصدر الجنرال "ويليام بويكين"، الذي يعد الآن أعلى ضباط الاستخبارات في البنتاغون، مؤخراً تصريحات علنية بدت وكأنها تحريض للمسيحيين ضد المسلمين في الحرب على الإرهاب، حين قال: "نحن أمة مسيحية وعدونا الروحي لن يهزم إلا إذا حاربناه باسم المسيح". وقد اعتذر بويكين لاحقاً عن تصريحاته!!! ومهما يعتذر أو يبرر فعلى ما يبدو أنها محاولة لبناء جسور من الاستشراق، ولكن هذه المرة عبر جيوش جرارة من الأسلحة وليس من الرحالة!! ؟