نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

تسابيح شهادة: ناحية القلب‏

ولاء إبراهيم حمود

 



عندما كان طفلاً، ناولني كوب ماءٍ، فحمدت اللَّه وارتويت. وعندما استوى على جادة المقاومة الشمَّاء، قائداً، سقى أمته والوطن أكواباً من دمه الطاهر، فشرب الوطن وارتوت الأمة. وبكيت في أعماقي، الطفل الذي رواني يوماً. وأكبرت في عقلي القائد الذي روى عطش الأمة. الشهيد "محمد كامل كمال" وأنا إذ أهدي روحه الطاهرة حفنة من كلمات، في ذكرى ميلاده الواقعة في هذا الشهر، شهر الطيور المهاجرة أثق أنني لا أستطيع أن أعيد إليه حتى ثمالة الكوب الذي قدَّمته لي يداه يوماً، فضلاً عن رواء الينبوع الذي فجره على ضفاف الوطن وظمأ الأمة.

جاهدت كثيراً كي تتماسك، وهي تستلم حقيبة الغالي "محمد" بعد أسبوعين من استشهاده. لم تدرِ عندما ضمَّتها إلى قلبها الملتاع، إن كانت قد شكرت حاملها إليها، لم تدرِ كيف أغلقت الباب خلفه، وكيف عدت بها إلى غرفتهما، التي هجرتها منذ وصول الخبر. وهناك وأمام صورتهما عروسين، وقفت قبل أن تفتحها، تواجهه بحرقة دمعها، بنظراتها تتوسل عودته المستحيلة، ولكن هيهات، ها هي حقيبته التي كانت تحرص على إعدادها له في كل "سفرة" قد عادت دونه. ومضى بعيداً. باكراً يرحل الأحبة! لماذا؟ وتمثلته أمامها، في مثل تلك اللحظات، عائداً بالحقيبة نفسها، يفرغانها معاً من محتوياتها، التي كانت تضم إلى ملابسهِ قرآناً وكتاب دعاء.

عادت بها الذكرى إلى ملابسه التي كانت تطويها، لتجد ضمنها رسالةً تفاجئه في أولى ليالي البعد، كانت تحدثه فيها عن أشواقها التي تفوق طول الليالي، عن حبها له الذي كان يوازي عمقاً حبه للمقاومة. كانت تحدثه عن شقاوة ابنتيهما وثرثراتهما. وفي مثل هذه اللحظات بعد عودته، كان يحدثها عن عمق سروره برسالتها المفاجئة وأنه كان يقرأها مرات عديدة ويبقيها حيث وضعتها هي بيدها، ناحية القلب، في جيب سترته الجهادية ولا يضمها إلى سابقاتها، حتى توافيه التي تليها، حيث يضعها في مغلَّفٍ خاص أنيقٍ، كان يحرص على "رفقته" في كل أسفاره. وكم كان يؤلمه خلو جيب السترة من رسالتها في إحدى سفراته. وشرحت له يوماً أنها تريد أن تحافظ على رونق هذا الأمر بينهما وأن تشوِّقه قليلاً للرسالة القادمة. سألته مرةً أن يكتب لها رسالة تسليها بعد سفره مباشرة، تذكر أنه أجابها ضاحكاً: "إني تاركٌ لك بدل الرسالة رسالتين، ألا تكفيك مريم وفاطمة"؟ ثم أضاف وقد أشرق وجهه بابتسامةٍ أضاءت كل كيانه: "أمّا هذه يعني الورقة فدعيها لإحساسي بالرحلة الأخيرة، ستكون فيها رسالتي إليك، الأغلى على قلبك، لأنها لن تتكرر". أبكتها الذكرى الآن، كما بكت حينها، ولكنها انعطفت بها إلى رسالتها الأخيرة له، وعدته فيها أن ترسل له نوعاً من الحلوى، لم يكن جاهزاً عندما أزف موعد سفره، وتذكرت أنها أرسلته مع أحد المسافرين إليه. ها هي الآن وحيدةٌ مع حقيبته تتردد في فتحها كما كانت تفعل من قبل بحضوره، تساءلت بمرارة: "يا لقسوة القدر! كيف سأفتحها دونك، لأول مرة؟ ورسالتي إليك، من سيحدثني عنها؟ أتراك قرأتها قبل استشهادك؟ أم بقيت يتيمةً، كفاطمة ومريم، تنتظر عينيك الحانيتين، تمسحان عن حروف كلماتها لوعتي؟ يا إلهي! كم تعذبني أسئلةٌ لن أجد إجاباتها؟ ودون وعي منها، فتحتها وأفرغت محتوياتها على السرير كما كان يفعل ووضعت على المنضدة المجاورة القرآن وكتاب الدعاء، ثم راحت تبحث في جيب إحدى ستراته.. ووجدتها، تلك كانت رسالتها الأخيرة له.. أشعرها تغيير طفيفٌ في طيَّاتها وفي مكانها أنه قد قرأها، لم تنه قراءتها ثانيةً، لأن شعوراً غامراً بالفرح، هبَّ على مجمرة حزنها، ويقين ثابت.

اندفعت لتبحث في سترة أخرى، وهناك وفي الجيب الواقع ناحية القلب، أخرجت "منال"(1) ورقة، تلك كانت رسالته إليها كما أجابها يوماً. التهمت عيناها سطورها بسرعةٍ، ها هو يحدثها مطوَّلاً عن الشهادة، ويطلب منها أن تكون بعده المجاهدة المزدوجة، فالجهاد أماً وأباً لابنتي الشهيد لا يقل أجراً أو قيمة عند اللَّه عن أجر الشهيد وجهاده... وفي الفقرة الأخيرة، لاحظت عنايته الفائقة بخطه، لتقرأ فيه أجمل ما قرأته عيناها حتى اللحظة: يا منال قلبي ومنية آخرتي، أيتها الحبيبة الغالية، إغفري لي أنني تقاسمت مع إخواني هديتك الرائعة "الحلوة" التي وصلتني منك، في وقت رحّب فرح الجميع بها. أعرف أن هذا الأمر لن "يزعلك" أبداً.

أثق أنك الآن ستتذكرين أنني وعدتك يوماً أن أكتب لك رسالة، يعز عليَّ أن تكون الأولى والأخيرة في آنٍ، ولكنني وعدتك، وها أنذا أفيكِ الوعد أيتها الوفية... بعد أن أنهت سجدتَي شكرٍ للَّه على أجمل مفاجأة في أصعب مواسم حزنها، لم تطوِ "منال" رسالته، ضمتها إلى قلبها مفتوحة، رفعتها إلى شفتيها، راحت تقبل فيها كل كلمة، كل حرف، فهي مقدسة بخط شهيدها الغالي، الذي تقاسم مع إخوة الجهاد هديتها ومع إخوة الحياة في أمته.. دمه وعمره، والقلب الذي اتسع لها... وللمقاومة... ها هو يوافيها وفي زمن غير بعيد عن انتصار الوطن تحت ظل الوعد الصادق، بصدق وعده حتى ما بعد، ما بعد الشهادة...

ومع سماعها صوت ابنتيها اللتين كانتا تلهوان في الغرفة الأخرى، وضعت "منال" رسالته في المغلف الذي حط رحاله أخيراً بعد "رفقة عمر" مع تجوال صاحبه الجهادي... تماماً كما كان يفعل، ولكن في هذه المرة ومن ناحية القلب، غطته بالسترة التي حملت لها رسالته... ودعت صغيرتيها، إلى رؤية ثياب الشهيد وسائر محتويات حقيبة جهاده، وأسمعتهما رسالته إليها وإليهما، مكتوبةً بصوتها، فقد حفظتها أمانةً ووصية، وستعمل على تنفيذها بإذن اللَّه كما حفظ الشهيد وعده... ووفى.

(1) منال زوجة الشهيد "محمد كامل كمال"، والتي حدَّثتني عنه بما لا تتسع له هذه الصفحات، وما ذكرته هنا غيضٌ من فيضٍ كما يقال.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع