ولاء إبراهيم حمود
إلى محمد شبيب محمود(*)، الذي عرفته بقاعياً، يخلص الحبَّ لفلسطين وأُمه الإيرانية، للمقاومة وزينب الجنوبية، التي أحبته، فكتبتها لهما معاً، بعد حديث دار بيننا في منزلها عن استعداده للشهادة على أرض فلسطين منذ خمس سنوات. ولأنه التحق بركب الشهداء، مسابقاً نهاية عدوان تموز 2006، موقعاً على نهايتها، بدم قلبه، لا بحبري، وبقامته المهيبة، لا بقلمي، وهو ينحني ليحضن قداسة هذا الوطن. لكل هذا وأكثر، أنشرها، كما قرأها منذ ذلك الحين، تحيةً لجهاده ومقاومته، أمَّا لزينب التي رأيتها تمشي على الجمر، محرقةً كلَّ أشواك الطريق، شوقاً للقائه، أقدِّمها مني ومنه هدية حبٍّ: أثق أنه في قلبها باقٍ إلى الأبد، وقد تزول الجبال ولا يزول. كانت الدرب خاليةً، إلا من وقع خطواتها المتئدة، التي كانت عند ذلك الغروب الرائق، تعزف إيقاعاً رتيباً، هادئاً، لسمفونية الصوت والصدى، وأحلام القلب والمدى...
وكانت عيناها السودوان تخبّآن بين الجفون والهدب صورته التي دفعتها إلى هذه الدرب وحيدة.. وما كانت في سيرها متعبةً.. كانت كئيبةً فقط، وقد أسعدها في عزّ كآبتها، أن تنجح في استعادة ابتسامته العذبة الحلوة ونظراته الواثقة، القوية، التي طالما اشتبكت في أعماقها أسنة البطولة، برماح المقاومة. لكنها كانت عندما تلتقي عينيها ترق وتلين، وكأن صاحبها عابدٌ في محراب. دعاها رنين هاتفها النقال لحوار لم تكن ترغب فيه، فأسكتته... هي تثق أنه ليس هو.. إنه الآن في مكان ناءٍ بعيد في المنطقة الثانية المترامية خلف المدى، خلف السياج الحدودي لبلدها... منذ شهرين فقط ودّعها... وعلى هذه الدرب رافقها وهو يحدّثها عنها... هل تراها كانت أقرب إليه منها...؟ ربّما... لأنها لم تكن امرأةً أخرى... كانت فلسطين... الحلم العائد إليه وإليها... فلسطين التي قاسمتها حبه حتى أخذته منها... أين تراه يكون الآن...؟ لقد واجهها في لقائه الأخير معها... في مثل هذه اللحظات: "إنك تحبين فلسطين قصيدةً ثورية تلقينها في الاحتفالات الطلابية.. أما أنا فقد أحببتها، حب الشجرة للأرض التي يفترسها اليباس لو زرعت في أرض أخرى سواها.. لقد أحببتِها أنت مسيرة صاخبة تندد بالعدوان اللئيم الذي أردى محمد الدرة... أما أنا فقد أحببتها أماً ستحضنني شهيداً بعد أن مسحت وجع محمد لحظة مدّده الوجع على رصيف الوطن أمام أنظار أطفال الكون".. كانت التلة بعيدة جداً، لا فائدة إذاً من وصولها إليها فهو لن ينتظرها هناك كعادته. استدارت عائدةً لأنها تعلم رفضه تجوالها في الليل وحيدة، حاملة وجهه يضيء أمامها آخر الدرب كآخر شعاع من شمس ذلك النهار..
شدّتها الذكرى مرّةً أخرى إلى لقائهما الأخير، عندما طلبت منه صورةً له فرفض ذلك... ألا تريدني أن أتذكرك.. أن أناجي رسمك على بعد؟؟ وهل قررتِ نسياني سريعاً كي تحتاجي صورةً تُذكرك بي؟؟ أوَ يحتاج محب لصورة تذكّره بوجه من أحب؟؟ أنا ما نسيت وجه أمي ولا وجه أبي.. وحفظت خارطة فلسطين عن ظهر قلب. دعني على الأقل أنشرها لك مع خواطر ثورية بعد أن..! ولم تجرؤ على لفظ الكلمة التي كان يراها عظيمة بقدر ما كانت تراها مؤلمة.. فأجابها بعد أن طال صمتها: "فلسطين وجهي ووجهتي، صوتي وصورتي، إنها قلبي وقبلتي، أمي وأمتي.. انشري خارطتها.. ارسميها وحدّدي عليها مقالع الحجار من قلب الصخر لفتيانها.. فلسطين حبي وحبيبتي.. هاك ضرّة تعرف كيف تشعل قلبكِ غيرةً..". وجدت ابتسامته إلى وجهها طريقاً.. فأضافت بغصة: "لو كانت وحدها ضرتي لهان الأمر.. لكن ماذا تراني أفعل الآن حيال الحور العين اللاتي ينتظرنك في الجنة على شوقٍ؟؟" ردد الطريق الخالي حينها رجع ضحكاته، ودعاها للجلوس تحت هذه السنديانة المنفردة التي وصلتها الآن.. جلست تحتها غير عابئةٍ بعباءة الليل التي غطتها.. توقفت طويلاً عند عبارته حينها: "ألا يرضيك أنني أحببتك رمزاً لكل نبيل سامٍ في حياتي؟ ألا تثقين أنني أراك في قلبي أجمل من حور الجنان اللواتي سيكافئني اللَّه بهن... لأن اللَّه سبحانه كافأني بك في الدنيا وصنعك مزيجاً رائعاً لمحبة أمي واندفاع أبي"؟ تذكرت أبويه في تلك اللحظة، كان فخوراً بهما كثيراً.. كان وجهه يشرق بكل حبه لهما، عندما يحدثها عنهما، عن انتصار حبهما الثائر في مواجهة الأعراف. وكان سعيداً باعتبار لقائه بها شبيهاً بلقاء أبويه.. فأمه مثلها تختلف جنسيتها عن جنسية أبيه. كانت إيرانية شجاعة أحبّت وهي على مقاعد الدراسة الجامعية فلسطين وأباه فتزوجا، بعد أن أذابا بإيمانهما القوي بحبهما وبالقضية التي جمعتهما، صلابة الجدار وأباه الذي وقف عنيداً على مفارق اختلافهما المذهبي والوطني، الذي وضعته أسرتها سداً أين منه سور الصين العظيم؟.. حاورته قبل أيام من وداعهما: "لم لا نتزوج ثم تمضي إلى جهادك الذي أحببتك من أجله"؟. ليكن زواجنا في الجنةِ، صدّقيني إنّ لوطني عليّ حقاً ولأرضي في ذمتي دَيناً. لكن والدك لم يكتفِ بحلم الزواج في الجنة، لقد كان أكثر واقعية عندما أحب أمك، التقاها هنا، ليتركك لها مقاوماً شجاعاً، تفخر به، كما افتخرت بأبيه من قبل. هرب حينها بنظراته منها ليقول بألم: أخشى أن يهزمني حُبّك، فأتمسك بجوارك... لِمَ لم يخشَ هذا الأمر والدك؟.. ماذا لو لم تكوني أنت بشجاعة أمي؟؟ فهي التي دفعته وباركته بدعائها.. أرجوكِ دعيني أمضِ في طريقي.. وباركي خطواتي وافخري أنكِ كنت دائماً بوصلة العمر التي أشارت لي إلى وجهة فلسطين. ذكّرها هذا الحوار باليوم الذي جاءها فيه بهدية، رفضتها قبل أن تراها.
افتحيها... ثمّ ارفضيها.. المهم عندي أن تفهميها...!. لم تستطع رفضها بعد فتحها، فقد أدهشها خطه الجميل الرائع الذي يزيّن لوحة أبدع في هندسة إطارها، لتليق بالحديث النبوي الشريف: "الجنةُ تحت أقدام الأمهات"، وقد أضاف إليه: "وفلسطين جنةٌ تحت قدمي أمي". اعترضت بعد أن أبدت إعجابها وفرحها الشديدين بها: لو قلت وفلسطين جنةٌ في قلب أمي لبدا قولك أكثر جمالاً وإبداعاً. بدل أن تسرق حديث الرسول الأعظم بحرفيته أراك طمعت لأنك سميَّه بعفوه وغفرانه. كم أسعده حينها رضاها بالاحتفاظ بها، لأنه حملها إليها بمناسبة عيد الأم. هذا اليوم الذي لم يتوقف عن احيائه حتى بعد وفاة أمه المبكرة بعد ولادة عسيرة. كم كان يحدثها عن أمه.. كان يرى فيها شبهاً بها.. من جمال الملامح النبيلة التي كانت في نظره ومضة مضيئة من معاني المقاومة. واعدته في العيد الأول للتحرير والمقاومة، عند ضريحها. أهدته يومها سلسلة فضية تحمل مجسماً صغيراً لخارطة فلسطين، يتوسطها المسجد الأقصى وقد علّقت معها قلباً صغيراً.. ما زالت تذكر تعابير وجهه عندما فتحته، ليطالعه فيه وجه أمه التي أحبتها دون أن تراها.. ما زالت تذكر كيف تأمل هديتها، كيف أغلق انفعاله بوابة الكلام بينهما.. وكيف حمل صمته شوقه الكبير إليها، ثم كيف ارتدّت عيناه عنها، إلى التراب، تعانقان بدلاً منها وجه الغالية التي يغيّبها بين ذراته. في لقائهما الأخير، بكت وهي تدعوه إلى تأجيل ما عزم عليه وذكّرته بوعده، أنه لن يدخل الجنة إلا برفقتها. وكيف أنسى؟ دعيني أسبقك، لأعبِّدَ لك طريقها، وأبني لك هناك بيتاً نعيش فيه معاً فرح الابتصار بعد طول جهاد... ذكّرها ظلام الليل أيضاً، بيده السمراء، يمدها إليها بساعته، وهو يطلب منها أن تعتمد عليها في ضبط مواعيد صلواتها.. وأضاءت آخر ابتساماته ظلام الليل وهو يقول لها: "صدّقيني أنني أحببتك، قبل أي شيء، رفيقة درب وشريكة جهاد. ثم لا تعجبي.. أحببتك أُماً، أعادت لي دفء الحنان في وجه أمي. وثم أحببتك وطناً لا أرضاه سبياً... دعي كلمتك الأخيرة لي تشجعني.. دعي وجهك الهادئ الأسمر يضيء دروبي". واستعادت عيناها في صمت ذلك الليل، حرارة الدمع الذي غيّبته عنه، لتراه يمضي مسرعاً بعد أن لوّح لها بيده، متجنباً بعد صراع مرير مع نفسه لحظة طالما عانيا معاً احتراقهما إليها، وعناق لحظة الفراق. أيقظتها لسعات البرد الخفيفة من غفوتها في أحضان ذاكرتها... لاحظت تأخر الوقت بها، تأملت ساعته على ضوء مصابيح سيارة مرّت بها، استقلتها بعد أن توقف لها سائقها. كان شيخاً معمّماً ترافقه زوجته وطفلاه. كانا يثرثران بفرح طفولي، افتقدته منذ زمن، عن الإحتفال المدرسي لذلك النهار... خفق قلبها بشدة عندما عرفت أن اليوم هو الحادي والعشرون من آذار... قوة حدسٍ مجهولة دفعتها إلى غرفة جلوس العائلة، بعد وصولها إلى المنزل حيث كان تلفزيون المنار يعرض مشاهد العملية الإستشهادية في فلسطين...
كان وجهه، بملامحه الشجاعة وابتسامته التي تخصها وحدها... ونظراته التي تعنيها هي. جلست على الأرض، تصغي، لتزرع في أعماق قلبها كلماته الأخيرة، التي قال فيها: إنه لم يجد أفضل من دمه وقلبه هدية يقدمها في هذا اليوم إلى التي يخصّها بالحب أماً لم تلده، لكنه أحبَّها وأحبته بمشاعر من ولدته لفلسطين مقاوماً، بطلاً.. عرفت أنه يعنيها دون أن يسمّيها، وأن يده المشغولة بالسلاح تركت يده الخالية تمسك بخارطة فلسطين القضية والقلب الذي أهدته إياه. وقفت لتصلي ركعتي شكرٍ كما عاهدته في آخر لقاء، خذلتها قدماها.. فتهاوت بين ذراعي أخيها الذي كان يعرف متفهماً ما بينهما، همس لها مشجعاً ولو بصوت خنقته عبرته: "هدية مباركة يا أجمل الأمهات". خنقت الدموع كلماتها، ألقت على كتفه قرب قلبه الشفيق الحاني، رأسها المثقل بالحزن، فضمتها ذراعاه بحنان ودمعت عيناه وهو يحيطها بقوله: "كنت أثق أنه يحبك كل هذا الحب.. غالٍ مهرُك يا أحلى العرائس.. شهادة مباركة يا أم الشهيد وحبيبته". "لقد أحبها هي أكثر.. لها قدّم المهر ولها في عيدها قدّم الهدية.. إنها فلسطين النائمة في عيني أمه حلماً والمستيقظة على توهج التراب بين كفّيه قضية. وها أنا ذا أعيده إليها ملفوفاً بحبّنا الكبير وشاحاً لأغلى هدية...". أمّا له فقد كتبت في أولى صفحاتِ يومياتها بعد استشهاده: إنها فلسطين، أمُّنا جميعاً، أينما كنا، حبُّنا الباقي إلى الأبد. وقد أعدتك إليها إبناً حبيباً، فأرجعتك إليَّ حبيباً شهيداً، لتشرق شمس البقاع وتزهر ورود الجنوب، وتصدح مآذن إيران وقبابها... وهذا الذي كرمى لعينيك محمد من كل هذا الحب سيكفيك ويكفيني... ويرضيك ويرضيني... وحتى يجمعنا سبحانه في جنة رضوانه... لك مني سلام اللَّه يا حبيب اللَّه وسميَّ رسول اللَّه.
(*) استشهد الشهيد في مجمع الإمام الحسن عليه السلام، نهار الأحد، 13 - 8 - 2006 في آخر أيام العدوان.