مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

شهيد الوعد الصادق: قاسم محمد مكي (أبو صالح)

نسرين إدريس

 



اسم الأم: ليلى حريري‏
محل وتاريخ الولادة: حبوش‏19 - 3 - 1970
الوضع العائلي: متأهل وله ثلاثة أولاد
محل وتاريخ الاستشهاد: حبوش‏25 - 7 - 2007


أثناء عملية علمان الشومرية في العام 1987 و(على الرغم من البرد القارس، فإن أحد المجاهدين (قاسم مكي) غفا ونام نوماً عميقاً وهو يحملُ بندقيته في لحظة اطمئنان تتقاذفها الحياة والموت)(*). وأي اطمئنان لا تفقهه إلا قلوبُ الواصلين تلكَ اليدُ الممسكة بالبندقية منذ نداوتها، لطالما كانت تلطمُ الصدر حزناً على الإمام الحسين عليه السلام، والصوتُ الشجي يسافرُ إلى حيث الروح هائمة عشقاً بين دمعةٍ وقطرة دماء: "قمْ يا حسين أنا قاسم سفكوا دمي"(**).

وهل انتظر قاسم إلا ذلك؟ ويعيدُ بلوعةٍ بين الأحبّة: "سنوات قليلة وسأخطو في الأربعين والعمرُ بين زفرةٍ ونظرة إلى ركب الراحلين والزادُ مهما خفَّ لم يزلْ حملاً ثقيلاً..". في قريته حبوش، وقبلَ أن يبلغَ الحلم، شارك قاسم المجاهدين في مقارعة العدو الإسرائيلي، وهو في الثانية عشرة من عمره، فكان يرصد لهم تحركات الآليات والدوريات، ويسجّل ملاحظاته حول عدد (الخيار، والبندورة، والباذنجان..)، ويوزع لهم الجرائد والمنشورات غير عابئ بالملاحقة. وعندمّا شبّ قليلاً، سُمح له بالمشاركة في العمليات العسكرية. فكان في السادسة عشرة من عمره عندما شارك في عملية علمان الشومرية، وبعدها داستْ أقدامه دُشمَ المواقع الإسرائيلية، التي طالما زرع مجاهدو المقاومة الإسلامية راياتهم عليها، وعرفت الوديان همسَ أسراره في الكمائن التي حبكها لذئاب الليل المتسللة.
 

بعد اكمال دراسته الثانوية سافر إلى إيطاليا حيث درس لثلاث سنوات هندسة ميكانيك تحت أنظار المخابرات الإيطالية التي كانت تخشى من نشاطاته الإسلامية، إلى أن كانت حرب الأيام السبعة عام 1993، فحزم حقائب العودة ورجع كالأسد إلى عرينه في حبوش، ليُكمِلَ طريقه بنفس الشجاعة والإقدام، بانتظارِ أن يبلغَ حُلمه الوحيد؛ الشهادة. من معسكرات التدريب، حيثُ ربّى العديد من المجاهدين والشهداء، إلى تنظيم عروض يوم القدس العالمي، إلى غير ذلك من المهمات الجهادية والاجتماعية والثقافية...، ومع كل ذلك لم يتهاون في تأهيل نفسه والتزود من طلب العلم والقوة عبر، المشاركة في الدورات العسكرية والثقافية والإعلامية، فالعلمُ ماءٌ لا يزداد شاربه إلا طلباً.. وكما يكون دوماً "القادة عندنا"، لم يحمل من حطام الدنيا كما كان يردد دائما سوى العزم على الرحيل، ولم يشعر بالتعب إلا عند خلوده للراحة. وها هو ذا قاسم، ومن لا يعرفه! ببشاشة وجهه المشرق، وكلماته الرقيقة، وهمساته التي تطفئ براكين الغضب، يجلسُ عند العصر يشربُ القهوة مع الأهل، ويتمشى مع الاخوة إلى المسجد، ويعتلي المنبر في عاشوراء ليبثّ شجونه إلى مولاه عليه السلام، وبين المجاهدين هو القائد المتواضع، اللينُ الذي لا يُعصى، والقاسي الذي لا يكسَر، والواعظُ لنفسه قبل غيره، يدعو إلى الحق بغير لسانه، ويتركُ للواعجه البوح بما في نفسه دون أن يضعفه دمعٌ جرى، كما حدث معه مرة في أحد الدروس التي كان يعطيها للمجاهدين وقد بدأ حديثه بذكر الإمام الحسين عليه السلام وشهادته، حيث امتزجتْ كلماته بملح دموعه، وقد لاحتْ أمام ناظريه نخلات كربلاء وكأنه سيُنيخ رحله هناك بعد أيام.. فتلك الصلابة كانتْ تتفتت عند ذكرِ مصائب أهل البيت عليهم السلام. ولكم تأثر قلبه عندما شاهد الحلقات الخاصة بحياة الإمام الخميني قدس سره سليل العترة الطاهرة، فقد كان الإمام قدس سره يمثّل له نموذجاً للإنسان الذي أدى الأمانة لله تعالى.

وفي هزيع الليل، عابد هجر الدنيا، وجافاه الكرى، تراه يتقلبُ ذات اليمين وذات الشمال وكأنه وصل سدرة المنتهى، وكيفَ يصبرُ على الفراق من لاح له الوصال أكثر من مرة وفي أكثر من مكان؟ وقد أحسّ يوماً بروعة نزيف الدماء في سبيل الله، عندما أصيب في رقبته في العام 1986 في شرق صيدا، ولم يشفَ الجرح إلا وقد فتحَ جراحاً في الفؤادِ لا يُبرئها إلا الرحيل. عُرف قاسم بحدسه القوي، وصفاء روحه التي جعلتهُ يستشعرُ الآتي باطمئنانٍ وسكينة. فعندما كانَ في دورة عسكرية بعيداً عن المنزل شعر بأن زوجته حامل، فعاد ووجدها كذلك ليحمل ابنه الأول "ساجد"، وعندما حملتْ بتوأمين، علمَ أن أحدهما ذكر فسماهُ "مهدي"، فيما بشّره سماحة السيد حسن نصر الله في منامٍ بفتاة اسمها فاطمة، ولهذا كان دائماً ينادي ابنته (بُشرى السيد حسن). قبل ثلاثة أيام من حرب الوعد الصادق، رأى في منامه أنه على جبلٍ يشبه جبل عرفه، وهو يتعرّف ويُسلّم على قادةٍ في جيش الإمام المهدي عجل الله فرجه، حتى إذا ما وصل إلى صاحب الأمر عجل الله فرجه ليُسلّم عليه، أيقظته زوجته، فقال لها معاتباً: سامحك الله، انتظري لحظة كنتُ سأسلم على الإمام المهدي عجل الله فرجه.

بدأ العدوان الإسرائيلي، ووقف المجاهدون بعزيمتهم الحسينية التي لا تلين في وجهه، ليعيدوا للعدو مشهد الهزيمة تلو الهزيمة. ودّع قاسم أهله وأولاده، وشدّ عزيمتهم بالصبر والتوكل على الله، ولأول مرّة يتعلقُ به أولاده لدرجة أن لا يتركوه، وكلما أدار ظهره، عاد إليهم معانقاً، إلى أن ركب السيارة وانطلق في سبيل الله، وهو ينظرُ إليهم مبتسماً وملوحاً بيده. بقي مع مجموعة من المجاهدين في حبوش، فكان يقوم بالمهمات الصعبة والخطيرة بنفسه، فهو يتنقلُ بين القرى تحتَ هدير الطائرات الحربية وطائرات الاستطلاع، غير آبهٍ بمزجِ ليله بنهاره، فوجوه أحبائه الذين غادروه منذ زمنٍ، قد أشرقتْ فوق التلال والروابي، فهذا صوت الشهيدين تيسير بدران وحسين زين قصير(1997) يناديه، والشهيد علي داغر (1986) ينتظره عند مفارق الدساكر، ووصية أمير المؤمنين عليه السلام ترنُّ في لبّه: تخفَّفوا تَلحَقوا.. وكيف للإمام عجل الله فرجه أن يتأخر عن مريديه، فبعد وقوع الحرب، وقبل استشهاد قاسم بيومين، أنبأه في الرؤيا أن هذه المعركة طويلة، وسيرتفع العديد من الشهداء إلى جوار الله عز وجل، وانه سيكون مع تلك الثلة الطاهرة، وبشّره بالنصر الأكيد لحزب الله على الرغم من قساوة المعركة.

واستراحَ قلبُ قاسم، ذكّر الأهل والأحبّة بوصيته الدائمة "الأولاد"، وكيفما تلفّت طلب المسامحة، وهو الذي كان يعتذر قبل أن يطلب أي شي‏ء ولو كان صغيراً، من أي أحد. وأثناء جولته في القرية التمس المسامحة من الجميع، وقد استغربوا جداً للإشراق الذي نضحَ به وجهه. وفي تلك الليلة، كان العدو الصهيوني يحرثُ أرض الجنوب بقنابله، قصفٌ عنيف؛ بري وبحري وجوي، قلّب في الليل صفحاتٍ من ضوء النهار. وفي ذلك البيت أطعم قاسم الرفاق تفاحاً وإجاصاً، قبل أن يمتزج صوته مع أصواتهم المترنمة بالصلاة؛ يوسف خليل، علي كلاس، محمود حيدر، حسن غندور، علي مالك حرب، وآخرين. وقد نقل مجاهد كان معهم، أنها كانت ليلة مفعمةً بالروحانية، فكانوا منقطعين إلى الله، وقد تجلى النور في وجهي قاسم وعلي كلاس، فكلما رفعا رأسيهما من السجود ازدادا نوراً على نور. وقد رأتْ ابنته فاطمة والدها في الرؤيا وهو يطعمها تفاحاً واجاصاً. كما بلغ قاسم حُلمه، فإن (بُشرى الإمام الحجة عجل الله فرجه) قد صدقت ب(وعد السيد حسن)، فطوبى لأمةٍ يُبشر إمامها بصدق قائدها.


(*) مقال حول عملية علمان-الشومرية، بقية اللَّه، العدد: 140.
(**) لطمية بصوت الشهيد قاسم مكي.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع