السيد خضر الموسوي
تمثل العلاقات بين المؤمنين أبرز سمة لمدى عمق الإيمان في نفوسهم، ومدى قوة الإرادة لديهم، فضلاً عن وعيهم لدورهم الحقيقي في الحياة الدنيا. فلا إيمان بلا عمل صالح، ولا قيمة لعبادة من دون معاملة سليمة. ولعل كلمة "الاستقامة" تختصر العلاقات بين المؤمنين كما أمر القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾. وهذا ما جسده الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام في حياتهم العملية وسلوكهم اليومي. وقد استطاع الإمام علي بن الحسين عليه السلام زين العابدين وسيد الساجدين خلال مدة ولايته (35) سنة، ترسيخ دعائم المجتمع الإسلامي الإنساني عبر تبيان معالم العلاقات والنوايا للإنسان المؤمن والأعمال والممارسات، من خلال تراثه العظيم من الأدعية والمناجاة والكلمات والذي يشمل النواحي الفكرية والعملية المتعلقة بالمجتمع والتنظيم الاجتماعي والأخلاق والتربية، فضلاً عن التوجهات السياسية. حسبي هنا أن أقدم نزراً من تلك التوجيهات "المعصومة"، التي أرساها الإمام عليه السلام من خلال الأدعية والكلمات حول كيفية العلاقات بين المؤمنين في المجتمع من جهة، وبين المؤمنين وسائر الناس من جهة أخرى.
* هجران الشر
المؤمنون يسعون للخير ويهجرون الشر ويرشدون الضال ويعاونون الضعيف ويدركون اللهيف، يقول الإمام عليه: "اللهم صلّ على محمد وآل محمد ووفقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه وفي جميع أيامنا لاستعمال الخير وهجران الشر وشكر النعم... وارشاد الضال ومعاونة الضعيف وإدراك اللهيف". والمؤمنون لا يغشون بعضهم ولا يُعجبون بأعمالهم، قال عليه السلام: "نعوذ بك أن ننطوي على غشّ أحد، وأن نُعجب بأعمالنا ونمد في آمالنا". ويقول الإمام في موقع آخر: "اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وسددني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة".
* محبة الآخرين
المؤمنون لا يحقدون، بل يحبون الآخرين، ولا يحسدون، ولا يتهمون، ولا يعادون لأسباب تافهة، ولا يعقون أرحامهم، ولا يخذلون طالبي النصرة، ولا يسيئون العشرة أو المعاشرة، ولا يخيفون الآخرين. قال عليه السلام: "اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وأبدلني من بغضة أهل الشنآن (الكراهية والبغض) المحبة، ومن حسد أهل البغي المودة، ومن ظنة أهل الصلاح الثقة، ومن عداوة الأدنين الولاية، ومن عقوق ذوي الأرحام المبرة، ومن خذلان الأقربين النصرة، ومن حب المدارين تصحيح المِقة ومن رد الملابسين كرم العشرة، ومن مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة". والمؤمنون مخلصون لجيرانهم ومواليهم وأهل ملتهم، يرفقون بالضعيف، ويدعمون المحتاج، ويعودون المريض، وينصحون المستنصح، ويكتمون الأسرار، ويسترون عورات بعضهم البعض، ويواسون الفقير، ويردون بالإحسان على السيئة، ويحسنون الظن بإخوتهم ويتجاوزون عن أخطائهم، يقول عليه السلام "اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وتولني في جيراني ومواليّ العارفين بحقنا والمنابذين لأعدائنا بأفضل ولايتك؛ ووفقهم لإقامة سنتك، والأخذ بمحاسن أدبك في إرفاق ضعيفهم، وسد خلتهم، وعيادة مريضهم، وهداية مسترشدهم، ومناصحة مستشيرهم، وتعهد قادمهم، وكتمان أسرارهم، وستر عوراتهم، ونصرة مظلوميهم، وحسن مواساتهم بالماعون، والعود عليهم بالجدة والإفضال، وإعطاء ما يجب لهم قبل السؤال، واجعلني اللهم أجزي بالإحسان مسيئهم، وأعرض بالتجاوز عن ظالمهم، وأستعمل حسن الظن في كافتهم، وأتولى بالبر عامتهم، وأغضّ بصري عنهم عفة، وألين لهم تواضعاً وأرقّ على أهل البلاء منهم رحمة، وأسرّ لهم بالغيب مودة، وأحبّ بقاء النعمة عندهم نصحاً، وأوجب لهم ما أوجبت لحامتي، وأرعى لهم ما أرعى لخاصتي، اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وارزقني مثل ذلك منهم... حتى يسعدوا بي وأسعد بهم".
* خدمة الناس
المؤمنون يخدمون بعضهم البعض، ولديهم الحسّ الاجتماعي الرفيع تجاه الآخرين من أهلهم وإخوانهم وجيرانهم، يقول عليه السلام: "وأما حق الصاحب، فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلاً، وإلا فلا أقل من الإنصاف، وأن تكرمه كما يكرمك، وتحفظه كما يحفظك ولا يسبقك فيما بينك وبينه إلى مكرمة". أما الدستور الكامل في الخدمة فيجسده الإمام عليه السلام في حديثه عن حق الأخ الجار حيث يقول عليه السلام: "إن استعان بك أعنته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتُقد عدت إليه، وإن مرض عدته، وإن مات اتبعت جنازته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فاهدها له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده". إنها آيات عجيبة في حسن مداراة الآخرين والتعامل معهم بحس اجتماعي راقٍ، ولكأن المؤمنين في علاقاتهم يتحولون إلى ملائكة أخيار يمشون على الأرض بصدق وإخلاص.
* في الأزمات والحروب
وأما في دعائه لأهل الثغور، فنرى أن كلمات الإمام عليه السلام حول العلاقات بين المؤمنين تمثل قيمة رائعة جداً في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم في الأزمات والحروب وحالات الجهاد والدفاع، فها هو عليه السلام يدعو لأهل الثغور ليعلمنا ذلك بقوله عليه السلام: "اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وحصّن ثغور المسلمين بعزتك، وأيّد حماتها بقوتك، وأسبغ عليهم من جدتك... اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وكثّر عدتهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم وألّف جمعهم، ودبرّ أمرهم، وواتر بين مِيَرِهم وتَوَحَّد بكفاية مؤنهم، واعضدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر، والطف لهم في المكر". ولا يتسع المجال لذكر جميع المفردات التي تنطلق من الإيمان الصافي ممزوجة بأريج المحبة والعشق للمجاهدين، والدعاء لهم بالنصر والفتح والشهادة.
* حق أهل الملة
وأما في رسالة الحقوق للإمام عليه السلام والتي تعتبر فريدة في صياغة الإنسان وتوجيهه سليماً، فنرى الإمام يتحدث عن "حق أهل ملتك" فيقول عليه السلام: "وأما حق أهل ملتك عامة فإضمار السلامة ونشر جناح الرحمة والرفق بمسيئهم وتألفهم واستصلاحهم وشكر محسنهم إلى نفسه وإليك، فإن إحسانه إلى نفسه إحسان إليك إذا كف عنك أذاه وكفاك مؤونته وحبس عنك نفسه، فعمهم جميعاً بدعوتك وانصرهم جميعاً بنصرتك وأنزلهم جميعاً منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ، فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه".
* حذار من آفات الذنوب
حتى عندما يتحدث الإمام عليه السلام عن الذنوب وآثارها في حياة البشر وأنواعها، فهو يشير حتماً إلى المؤمنين وعلاقاتهم وسلوكهم بطريقة واضحة جلية، ليقول هذه هي صفات المؤمنين في معاملاتهم اليومية، محذراً من آفات الذنوب وانعكاساتها على المجتمع. يقول عليه السلام: الذنوب التي تغير النعم: البغي على الناس والزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف وكفران النعم وترك الشكر.. والذنوب التي تورث الندم: قتل النفس التي حرم اللَّه وترك صلة القرابة حتى يستغنوا، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وترك الوصية ورد المظالم ومنع الزكاة حتى يحضر الموت وينغلق اللسان. والذنوب التي تنزل البلاء: ترك إغاثة الملهوف وترك معاونة المظلوم وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والذنوب التي تديل الأعداء (تحولهم أو تحضرهم): المجاهرة بالظلم وإعلان الفجور وإباحة المحظور وعصيان الأخيار واتباع الأشرار. والذنوب التي ترد الدعاء: سوء النية وخبث السريرة والنفاق مع الإخوان وترك التصديق بالإجابة وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها وترك التقرب إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بالبر والصدقة واستعمال البذاء والفحش في القول. ستبقى هذه النماذج من العلاقات معياراً حقيقياً لمدى التزام الأمة بالإسلام، ومدى تعلقها الحقيقي بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام. وبقدر ما تسود هذه العلاقات بين المؤمنين، بقدر ما يقوى ساعد المجتمع الإسلامي، ويتطور، ويتقدم، ويتم إعمار الكون وفق الإرادة الإلهية... وبقدر ما تسود هذه العلاقات مع "الآخر"، بقدر ما تشكل له حافزاً على التعرف على الإسلام، وتفهمه، والميل له، والإيمان به، والاقتراب منه، والدخول فيه. إنها مسؤوليتنا جميعاً "وقفوهم إنهم مسؤولون".