مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

شهيد الوعد الصادق‏ محمد الباقر قاسم عبد الحسين (هادي)

نسرين إدريس

 



اسم الأم: منى محمد عبد الحسين‏
محل وتاريخ الولادة: حوش الرافقة 5 -3 -1988
الوضع العائلي: عازب‏
محل وتاريخ الاستشهاد: مواجهة عيناتا 5 -8 -2006

إنه التراب الذي يُنبتُ العزمَ كما الأرضُ تلدُ الخُلّص من الأبناء. إنهم أباة الضيم، يركبون لُجَج الصعاب، ولا يخافون المنية، لأنها تسكن جباههم الأبية. إنهم الجيل الذي حفظت أيديهم البندقية وتركت آثار بارودها عليها. إنهم الرجال الذين وقفوا بوجه جحافل العدو الإسرائيلي بأعدادهم القليلة ليهزموه الهزيمة تلو الهزيمة، هؤلاء هم وحدهم الذين يحق لهم أن يحملوا من وطنهم الهوية. هؤلاء الصابرون، الراسخون، أبناء لبنان العظيم؛ "أبناء أشرف الناس وأطهر الناس". إنه منهم، في مقتبل عمره النديّ.

كان قبل أن ينطلق إلى عمله وعند عودته منه يقبّلُ يد والدته طالباً الرضا. وعندما نادته الأرض نزف دماءه فوق ترابها طالباً الرضا (خذ يا ربي حتى ترضى). كان الموافق للسابع من شهر رجب، عندما فتح عينيه على الدنيا، فوجد نفسه في بيتٍ قامت دعائمه على الإيمان والتقوى، وشُيّدت جدرانه وسقفه بتفاصيل الجهاد. وعندما تجاوز عتبة منزلهم في حوش الرافقة، حيث ولد وترعرع، وجد نفسه في الشارع العريض للمقاومة. ونشأ على مشاهد انتصاراتها، وراياتها تُزرعُ فوق أعلى التلال التي جعل منها العدو مرصداً لحدود حزامه الأمني الشائكة. لم تنفصل الحياة الجهادية عن حياته الخاصة. كان فتى ذكياً واعياً، درج على الأخلاق النبيلة، والهدوء اللافت والألفة مع من حوله لدرجة أن كل من يتعرف عليه حديثاً يصبحُ صديقاً له، لما حملته شخصيته من صفات تجذبُ الألباب. هو مذ كان طفلاً عرف المعنى العميق لـالأمومة"، ففي سن السادسة، قام ورفاقه بجمع مصروفهم اليومي ليشتروا هدية بمناسبة عيد الأم لمعلمتهم التي لم يرزقها الله أطفالاً، فوقف محمد الباقر وألقى كلمة جعلت عينيها تفيضان بالدمع، وهي تحضنه وتحمد الله على نعمه كلها.

كان محمد الباقر يمشي في دروب حياته واثق الخطى، وقد التزم بالقيام بالواجبات الشرعية في عمر تسع سنوات، ودأب على أداء صلاته في المسجد. وفي يوم طلب منه إمام المسجد أن يتوضأ أمام المصلين من كبار السن، ليتفاجأ الجمعُ أن وضوءه صحيح فيما كان وضوء بعضهم باطلاً! ولم يطل محمد المدة ليصبحَ هو مؤذن الجامع الوحيد، الذي كان يصدحُ صوته (حي على خير العمل) في أرجاء القرية، وفيما بعد، إلى كل بقعة من أرض لبنان الحر. في المدرسة حيث الزملاء، عاشَ محمد عمره الطبيعي خلف مقاعد الدراسة. وفي المجتمع قضى معظم أوقاته مع رفاقٍ يكبرونه سناً ما جعل ذهنه يتفتح على كثير من الأمور، وليعايش شجون الحياة وهموم المجتمع، وليحمل على عاتقه الطري قضية الأمة.

ولأن الزمن المر ألبسه لبوس الحرمان المُزين بالتعفف، خاض محمد غمار العمل وهو لا يزالُ منكباً على دفاتره وكتبه، ليقرن العلم بالعمل، ويكون ساعد والده في تعبيد طريق الحياة للعائلة، فكان رجلاً قبل أن يشبَّ، لا يتلكأ عن المبادرة في القيام بواجباته. فكان نعم الأخ والرفيق لأهله وإخوته. وكيف لا يكون كذلك، وقد قابل قساوة الدنيا بسماحة قلبه، وغدر الزمن بالعض على جرحه؟ ومهما استعر الألم لم يقل إلا ما يرضي الله عز وجل. وكما كان بارّاً بوالديه كان نعم الجار لأبناء بلدته الذين كان يسارع لخدمتهم ومساعدتهم، فهو لا يقوى على الجلوس إذا ما كان أحد ما يعمل، فكيف إذا كان العدو الصهيوني يحاول اجتياح البلاد، وهناك ثلة من المجاهدين يتصدون له؟ وإلى جانب سعيه لتكوين شخصية واعية مثقفة وناضجة، كان عابداً في غار الشوق إلى الله، ومُنتظراً حقيقياً لصاحب الأمر عجل الله فرجه، وممهداً بدمائه للظهور الأكبر. كان يجدد العهد بعد كل صلاة صبحٍ، ويذرف اشتياقه للولي الأعظم عجل الله فرجه، موجهاً روحه شطر العراق، زائراً عن بعد الإمام الحسين عليه السلام، لينهل من كربلائه جوهر الإيمان الحقيقي. فتقلّد سيف الجهاد قبل أن تزهر أفنان عمره بزهر الربيع. وخضع للعديد من الدورات العسكرية والتخصصية، معتبراً كل خطوة يقوم بها في هذه الطريق، عبادة ليس فوقها عبادة؛ "أولسنا على حق؟ إذاً لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموت علينا". وبخطاه الثابتة سار في دار الممر إلى دار المقر. لم يرَ في الدنيا غير زيفها وغرورها فلم تخدعه بزبارجها، وقد أسرَّ لأمه بعد انتهائه من آخر دورة عسكرية أن العبادة الأولى ستكون "الشهادة بإذن الله". وكانت الحرب؛ اشتعل قلبه شوقاً للالتحاق برفاقه. كانت الملاحم البطولية تُسطّر التاريخ في كل لبنان، ومحمد يسعى بكل جوارحه لأن يكون كلمة، أو حرفاً في ذلك الكتاب. لقد عاش عمره منتظراً لتلك اللحظة التي يؤذَن له فيها بالمشاركة بعملٍ جهادي، فكيف إذا كانت حرباً ستشكل بكل معطياتها مفصلاً للتاريخ والعالم بأسره؟

لم تسعه الدنيا من الفرحة عندما أُبلغ بأنه سيذهب إلى الجنوب. صار يمشي وكأن الهواء يحمله بين كفيه، وهو يعيد بغبطة: "لن أذهب رخيصاً بعد كل هذا التعب، وبعد أن أغادر شاهدوا المنار"، "رضاك يا أمي"، "كوني مرتاحة"، "لا تقلقي عليّ". وكان الوداع الأخير لأهله وأقربائه في 27 -7 -2006 ليلتحق مجدداً بصفوف المقاومة الإسلامية. إنها عيناتا، حاضرةُ العلم والجهاد. هناك كانت المواجهات من بيتٍ إلى بيتٍ، والعدو المكبّد بخسائر جمّة لم يعد يقوى على المكابرة، كما خسر في المبادرة، فها هو يتلقَّى الصفعة تلو الصفعة في جنوده النخبة من الألوية المختلفة. وكما مارون الرأس وبنت جبيل، كانت عيناتا الصابرة الصامدة تأبى الانكسار، وكيف لها ذلك وقد ضمّت بين جناحيها خيرة الرجال والشبان الذين أعاروا لله جماجمهم؟ كان محمد الباقر، واحداً من أولئك الذين عانقت أجسادهم ترابها الأبي، وارتفعت أرواحهم إلى حيث ينتظرهم صاحب الأمر والزمان؛ ليقلدهم وسامه وهم يؤدون تحية الشهادة له، وصوته رجعُ صدى لجدّه الإمام الحسين عليه السلام: ما رأيت أصحاباً أوفى من أصحابي.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع