الشيخ حسين الطقش
ينقسم الصوم إلى ثلاث مراتب:
الأول: صوم العموم أو صوم أهل الشريعة.
الثاني: صوم الخصوص، أو صوم أهل الطريقة.
الثالث: صوم خصوص الخصوص، أو صوم أهل الحقيقة.
أما الأول: صوم العموم، أو صوم أهل الشريعة: فهو عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجماع وغيرها من المفطرات المذكورة في الكتب الفقهية. وهذه المرتبة لا تفيد أكثر من سقوط الواجب والخلاص من العذاب. وهذه المرتبة ليست هي المطلوبة بحدّ ذاتها، بل هي مقدمة لمراتب أُخر.
أما الثاني: صوم الخصوص، أو صوم أهل الطريقة، فهو بالإضافة إلى ما ذكر في صوم العموم إمساك نشأة الظاهر أو القوى الظاهرة، وإمساك نشأة الباطن أو القوى الباطنة أيضاً.
أما الثالث: فهو عبارة عن الإمساكين المتقدمين بالإضافة إلى إمساك الصائم عن مشاهدة غير الحق تعالى.
والكلام في هذا البحث سيقتصر على المرتبة الثانية بقسمها الأول.
* إمساك نشأة الظاهر أو القوى الظاهرة:
* إمساك الأذن
إمساك الأذن عن الإستماع لكل ما حرّمه الله تعالى من غيبة، ونميمة، وغناء، واستماع كلام أهل الضلال الذي يكون سبباً للإنحراف عن طريق الحق والصراط المستقيم: قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ (الأنعام: 68). وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْه﴾ (القصص: 55). وقال الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأما حق السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيراً أو تكسب خلقاً كريماً، فإنه باب الكلام إلى القلب يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر، ولا قوة إلا بالله"(1).
* إمساك العين
وأما إمساك العين: فهو إمساك عن مشاهدة المحرمات والمنهيّات مطلقاً، وإلى هذا المعنى أشار الحق في قوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ (النور: 30). لأن غض الأبصار لازم لحفظ الفروج في الأغلب، لأن من لم يشاهد الشيء لم تطلب نفسه منه، ولا يكون له ميل له... قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأما حق بصرك فغضّه عمّا لا يحلّ لك وترك ابتذاله إلاّ لموضع عبرة تستقبل بها بصراً أو تستفيد بها علماً، فإن البصر باب الإعتبار"(2). وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفاً من الله، أعطاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه"(3).
* إمساك اللسان
وأما إمساك اللسان فعن الغيبة، والنميمة، والمراء، والجدال، والسخرية، والكذب، وإفشاء السر، وعن كل ما يخالف رضا الله تعالى، بل وعن فضول الكلام أيضاً. يقول العلامة النراقي: "اعلم أن أكثر ما تقدّم من الرذائل المذكورة في هذا المقام: من الكذب، والغيبة، والبهتان، والشماتة، والسخرية، والمزاح، وغيرها، وفي المقام الثالث، أعني التكلم بما لا يعني، والفضول، والخوض في الباطل، من آفات اللسان وهو أضرُ الجوارح بالإنسان، وأعظمها إهلاكاً له، وآفاته أكثر من آفات سائر الأعضاء... والسر فيه كما قيل أنه من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه وإن كان صغيراً حجمه، عظيماً طاعته وجرمه، إذ لا يتبيّن الإيمان والكفر إلا بشهادته، ولا يهتدي إلى شيء من أمور النشأتين إلا بدلالته..."(4). والآيات والأخبار الواردة في ذمه، وفي كثرة آفاته، وفي الأمر بمحافظته والتحذير عنه كثيرة، منها:
قوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ (ق: 18). وقوله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ (النساء: 114). وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"(5). وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً: "يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئاً من الجوارح: فيقول: أي رب! عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئاً من الجوارح، فيقول له: خرجت منك كلمة بلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك بها الدم الحرام، وانتهب بها المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام، وعزتي وجلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئاً من جوارحك"(6). وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأما حق اللسان فإكرامه عن الخنى، وتعويده على الخير، وحملُه على الآداب، وإجمامه إلا لوضع الحاجة والمنفعة، للدين والدنيا، وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها، وبعد شاهد العقل والنقل والدليل عليه، وتزيّن العاقل بعقله حُسْنُ سيرته في لسانه، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"(7).
* إمساك البطن
وأما إمساك البطن فعن أكل الحرام، بل عن المشتبهات أيضاً، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأما حق بطنك، فأن لا تجعله وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير، وأن تقتصد له في الحلال، ولا تخرجه من حدّ التقويّة إلى حدّ التهوين وذهاب المروّة، وضبطه إذا همّ بالجوع والظمأ، فإن الشبع المنتهي بصاحبه إلى التخم مكسلةٌ ومثبطة ومقطعة عن كل برٍّ وكرم. وإنّ الري المنتهي بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروة"(8).
* إمساك الفرج
وإمساك الفرج عما لا يحلّ له، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "أما حق فرجك، فحفظه عما لا يحلّ لك، والإستعانة عليه بغض البصر فإنه من أعون الأعوان، وكثرة ذكر الموت، والتهدّد لنفسك بالله، والتخويف لها به. وبالله العصمة والتأييد، ولا حول ولا قوة إلا به"(9).
* إمساك اليد
وأما "إمساك اليد" فعن تناول المحرمات كالسرقة، ومصافحة النساء المحرمات عليه، واستعمالها في البطش، والجور، والظلم، يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: "أما حقّ يدك فأن لا تبسطها إلى ما لا يحلّ لك، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل، ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل، ولا تقبضها في كثير مما لا يحلّ لها، وبسطها إلى كثير مما ليس عليها، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل، وجب لها حُسن الثواب في الآجل"(10).
* إمساك الرِّجل
وأما "إمساك الرِّجل" فعن المشي بها إلى أماكن أهل الفسق والفجور، والأماكن التي يقع فيها الإختلاط المؤدي إلى الوقوع في الحرام، بل عن مطلق أماكن الشبهات، ففي الحديث: "من حام حول الشبهات أوشك أن يقع بالمحرمات". ويقول الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأما حق رجليك، فأن لا تمشي بهما إلى ما لا يحلّ لك، ولا تجعلهما مطيّتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها، فإنها حاملتك وسالكةٌ بك مسلك الدين، والسبق لك، ولا قوة إلا بالله"(11). فتحصل أن المطلوب في صوم الخصوص أو صوم أهل الطريقة هو إمساك القوى الظاهرة كلٌّ بحسبها. وبعبارة أخرى إخضاع هذه القوى إلى حكم العقل والشرع وطرد سيطرة الوهم عنها. في الصحيفة السجادية المباركة: "اللهم صلِ على محمدٍ وآله وألهمنا معروف فضله، وإجلال حرمته، والتحفظ مما حظرْت فيه، وأعنّا على صيامه بكفِّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تبغي بطوننا إلا ما أحللت ولا تنطق ألسنتنا إلا بما مثلت، ولا نتكلّف إلا ما يُدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلا الذي يقي من عقابك"(12).
(1) تحف العقول، ص183.
(2) تحف العقول، ص183 (رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام).
(3) جامع السعادات، ج1، ص293.
(4) ن.م، ج2، ص109.
(5) جامع السعادات، ج2، ص110.
(6) ن.م، ج2، ص111.
(7) تحف العقول، ص183.
(8) تحف العقول، ص184.
(9) م.ن، ص184.
(10) م.ن، ص184.
(11) م.ن، ص184.
(12) الصحيفة السجادية، للإمام زين العابدين عليه السلام، الدعاء الرابع والأربعون.