نسرين إدريس قازان
هو حمزة، الشديد الحازم، الحكيم الصامت، المتفكّرُ المتفاني.. وهو حيدرٌ، شجاعٌ، له تقاسيمُ وجهٍ تحكي عنه الكثير، فتلك النظرة الثاقبة الحادّة، هي الرسالة الأولى التي تصلكَ حينما تنظر إليه، رسالة كفيلة بأن تجعلك تأخذ الحيطة والحذر، ولكن مع الدنوّ منه، تظهر شفافيّته المفرطة ورقّة قلبه.
•التخطيط للهدف
في أوّل تسريبات أفلام مشاركة حزب الله في حرب سوريا، وبالتحديد في الخالديّة بحمص، ظهر وجه أحد المجاهدين؛ إنّه حمزة! هناكَ، حيث التحمت كتفه بأكتاف الشهداء القادة، مثل علي بيز وبلال خير الدين وعلي طه، وأسّسوا قوّات الرضا.
"ما حدا بيترك مجموعته"، هو الدرس الأوّل في سلسلة من التدريبات الطويلة التي نظّمها الشهيد لشبّان التحقوا في مسيرة الدفاع عن المقدّسات، تلك المسيرة التي شبكَ حمزةُ ليله بنهاره خلالها في سبيل حبك شبكة متينة من مجاهدين أولي بأس شديد، فكان طويل البال، حكيم التعامل مع بيئة تختلف كثيراً عن بيئتنا، فقرأ الأفراد كقراءته الدقيقة لمجريات الحرب والمعركة، وخطّط للوصول بهم إلى حيث الهدف، فحبُّه الذي قذفه الله في قلوبهم أعطاه مكانةً أعانته على أداء تكليفه، فهو قد تعلّم من الحياة الكثير قياساً بعمره، ذلك أنّ أيّامه عصفت بالمواقف والتجارب التي زادته صلابة.
•نزوحٌ وكفاح
حمزة الذي ولد في "كفر دان" وعاش في بعلبك، منحته الدنيا خمسة أعوامٍ من السعادة والاطمئنان، قبل أن يخطف الموت والده، ليجد نفسه فجأةً يتيماً نازحاً من بعلبك إلى مسقط رأسه "كفر دان" مع إخوته وأمّه التي بدأت تكافح من أجل تربية أولادها، ومتابعة دراستهم. ولكنّه ما إن وصل إلى المرحلة المتوسّطة، حتّى وجد نفسه مرّةً ثانيةً نازحاً إلى بيروت، ولكن هذه المرّة وحده في باص أوصله إلى المدرسة الداخليّة، ليبدأ مرحلة كفاح جديدة، مرحلة بناء نفسه بنفسه، ومواكبة هذا البناء بكلّ وعي، وبكلّ تفصيل كان يرى فيه تعب أمّه وسهرها.
•القائد الصغير
برزت الشخصيّة القياديّة في حمزة منذ صغره، فلم يُقدم على شيء لم يخطّط له ويحدّد الهدف منه، حتّى في لعبه، ففي عمر الثانية عشرة توجّه إلى "البايكة"، وهي منطقة جرداء في أطراف بلدته، وبنى هناك مجسّماً للكعبة، وجمع الأولاد ليؤدّوا مناسك الحجّ. وكان حمزة قد تأثّر كثيراً بوجود الحرس الثوريّ في بعلبك، حيث كان يلتحق بهم لأداء الصلاة وقراءة الأدعية.
•أولويّة الجهاد
انتسب حمزة إلى كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وانتقل إلى التعبئة العامّة إلى جانب دراسته، وقد أكمل دراسته الثانويّة في ثانوية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، والتحق بالجامعة. وكانت هذه الفترة من عمره مفصليّة، إذ صار من المشاركين في الدورات الثقافيّة استعداداً للالتحاق بالدورات العسكريّة.
•أمامَ المقاومين
تميّز حمزة كثيراً في عمله، وعُرف ببأسه وشجاعته، وأنّه لم يترك موقعه يوماً، أو يترك أخاً مجاهداً جريحاً في أرض المعركة. وفي إحدى معاركه، أصيب بشظيّة في رأسه واستشهد رفيقه، فهرع الإسعاف الحربيّ وضمّد له رأسه. ولكي لا تؤثر إصابته سلباً على معنويّات المجاهدين، نزع الضمّاد، وعاد إلى ساحة الميدان لمواصلة تحرير المنطقة مع زملائه.
•"كونوا حسينيّين استشهاديّين"
الثبات؛ هو إحدى أبرزُ صفاته؛ ففي حرب تموز من العام 2006م، شارك حمزة في عمليّة الأسر إلى جانب الشهيدين خالد بزّي وعلي صالح، وتوجّه من فوره إلى متابعة تصاعد وتيرة العدوان، وانتقل إلى مارون الراس بمهمّة تفجير مفخّخات بالعدوّ الإسرائيليّ. وفي اليوم الثاني للعدوان، طُلب إليه ملاقاة مجاهد لينقلا معاً صواريخ مضادّة للدروع ويقصفا تجمعّاتٍ للعدوّ، ثمّ اختبآ في نفق، وسرعان ما التحق بهما مجاهدان، ليصبحا أربعة في نفق، فنجوا من غارات عنيفة، وهم يتداورون كوب شاي واحداً! وبعد ثمانية أيّام، صعد حمزة السلّم الحديديّ للنفق، ورصد مجموعة كبيرة من جنود العدوّ الصهيونيّ، فأخبر من معه قائلاً: "كونوا حسينيّين استشهاديّين"، ومن تلك الفتحة، اصطاد حمزة الكثير من الصهاينة في ما عُرفت بمواجهة "أشباح غابة مارون"، حتّى إذا ما فرّ الجنود، غنم ورفاقه عتاداً وانسحبوا إلى مكانٍ آخر ليتابعوا المعركة.
•"نحن أنصار الزكيّة"
كان "أبو مصطفى" كما عرفه المجاهدون هناك، بوصلة العشق لهم، استقوا من بسالته وشجاعته عزيمة لم تلِن، وكان كلّما خاطبهم قال: "نحن أنصار الزكيّة". المعارك الصعبة والطاحنة زادته صبراً وحكمة، وكان حيّ الخالديّة هدفاً واضحاً له. كان والشهيد علي بيز جناحَي المقاومة، وقد وصفه الشهيد بلال خير الدين قائلاً: "كان حمزة دولةً في رجل واحد". لقد كان مفكّراً ومخطّطاً ومنفّذاً ورحيماً وذا بطشٍ بالأعداء، يلقي صوته الرعب في قلوبهم".
•أرقامٌ ثلاثة
عرف حمزة أنّ رحيله صار وشيكاً. شدّت أخته على يده لمّا أخبرها أنّه يرى الشهادة باتت قريبة، قائلة: "وأمك؟ رحيلك يقتلها"، فردّ عليها: "لها الله".. وقضى أجمل أيّامه الأخيرة بين طفلتَيه وزوجته، في ذلك البيت الدافئ الذي زرعه حبّاً وأجمل ذكريات، وكانت وصيّته الأخيرة لزوجته: "احرصي على إحياء ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في البيت دائماً". ودّع طفلتيه وذهب إلى الخالديّة حيث المعركة المرتقبة. وبينما كان والشهيد علي بيز وعدد من المجاهدين يخوضون اشتباكات عنيفة ضدّ التكفيريّن، أُصيب حمزة إصابة خطرة، فقال لزملائه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: "أكملوا حتّى الجامع، إذا وصلتم إلى هناك، تحرّرت الخالديّة، وأنا لن أكون معكم"، وأسرَّ لأبي حسن (الشهيد علي بيز) أنّه رأى صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في منامه، وقد أعطاه ثلاثة أرقام لثلاثة مجاهدين سيستشهدون؛ سبقه أوّل، وهو الثاني، وسيلحق به الثالث.
•نداءٌ يتكرّر
استشهد حمزة وضمّه أبو حسن إليه الضمّة الأخيرة قبل أن يرفع صوته بأن "أكملوا حتّى الجامع".. وارتقى ذلك الأسد المغوار الذي امتدّ عطاؤه حتّى بعد رحيله، فكلّ بقعة تتحرّر، يصدح فيها نداء: "نحن أنصار الزكيّة".