مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

شهيد الوعد الصادق القائد محمد وهبي سرور (الحاج جهاد)

نسرين إدريس

 



اسم الأم: لطيفة سرور
محل وتاريخ الولادة: عيتا الشعب 27/6/1970
الوضع العائلي: متأهل وله أربعة أولاد
رقم السجل: 14
محل وتاريخ الاستشهاد: باريش 25/7/2006


هو ذخيرةُ كل المجاهدين في خطوط النار.. هو أثيرُ الصمود والإيثار عندما عضّت أنيابُ الحرب على التراب.. الحاج جهاد؛ وكان جهاداً للنفس قبل رصاص المعارك.. "جهاد" في سبيل الله والوطن ليس خياراً اتخذه في خضمّ اشتداد المحنّ، بقدر ما هو فطرة صقلتها العقيدة والدين في الروح، فانسكب في غدير العطاء ليصبح بكل ما فيه قطرة دمٍ وماء.. وهذا كل ما أراده محمد لنفسه..

مُذ كان يذهب مع والده، وهو طفل صغير، ليساعده في حرث الأرض وبذرها، ويرى الماء يغور في أعماق الترابِ لتتحول تلك البذرة الصغيرة إلى شتلة. أراد أن يكون كالماء للتراب اليابس، فأينعَ ما بذر شهداءَ ومجاهدين.. كان يمتطي الفرس ويصول ويجول كالفارس المتمرّس، ما لفت الأنظار إليه. فقد أجاد ترويض الفرس وهو طري العظم، وكلما لمحه أحد سأل عن الفتى الذي يقتحمُ الحقول برويةٍ، مقابل الدبابات الإسرائيلية التي كانت تجوب الحقول وتتلف الأرض. والفارس الصغير يتربّص بهم، ويتوعّدهم بالانتقام المرير، لأنه أدرك أنه لن يستطيع العيش في الحياة والعدو الإسرائيلي يسرح ويمرح.. نبتَ الفزع في الحقول، وأثمرت أغصان الأشجار بالترقّب بعد أن صارت مرتعاً للخفافيش، فما كان من والده إلا أن حمل عائلته تاركاً بيته وحقله في عيتا الشعب، ليستقر في منطقة الصرفند القريبة من مدينة صور، بعد أن صار أولاده في سنّ يختار فيها الشاب بين العمالة والمعتقل، فكان الليل جناحاً للرحيل السريع من العيون المتربصة بهم.. لم ينسَ محمد زوايا صوَر قريته المحفورة في وجدانه..

لم ينسَ يدي والده وهما تحرثان الأرض، ولم يغب عن باله صوت الصهيل الذي تردد في داخله رفضاً لكل ما يمكن أن يفرضه واقع الاحتلال الإسرائيلي، من تحويل الأرض إلى محميّة صهيونية..  ومن الصرفند إلى حي السلم في الضاحية الجنوبية، حيث كان من المفترض أن يستقرّ هناك ليتابع دراسته الأكاديمية، ولكنه كان على عجلٍ من أمره المحسوم، وعوض حقيبة الدراسة، حمل حقيبة الالتحاق بأولى الدورات العسكرية.. أضفت شخصيته المرحة جواً من الألفة أينما حلّ، فهو الرصين الجاد في المواضيع الجادة، لا يكاد يفتح نافذته للغرباء الذين إن سمعوا حديثه أنسوا، وطاب لهم الجلوس في حضرته..

أما بين الأهل والأحبة والأصدقاء، فهو يكاد يكون شخصاً آخر، فالسكوت يتحول إلى كلام لا ينتهي.. والمزاحُ يتلاطمُ بين الجدِّ والهزل، ولكنه لا يتجاوز حداً، ولا يؤذي قيد أنملة.. من حي السلم إلى مسجد الإمام الرضا عليه السلام، طريق حفظت خطواته اليومية، فمواظبته على أداء الصلاة في مسجد الإمام الرضا عليه السلام، على الرغم من المسافة الفاصلة بين المنطقتين، كانت من أهم إشارات البدء بالسلوك نحو الشهادة.. ظهر على محمد التزامه الدقيق بالأحكام الشرعية، ومنذ بدايات سيره في طريق المقاومة الإسلامية، كان رمزاً للتفاني والإيثار والزهد في الحياة التي كانت المقاومة مدماكها الأساس..  وبين الرصاصة وفوهة البندقية.. وبين القلم والصفحة البيضاء، سطور من حياة رجل مُذ اختار العيش في الجبهة، تحولت حياته إلى مهاجر في سبيل الله..

وامتطى الفارسُ جواد الجهاد، وهو الذي يعرفُ كيف يُروض السلاح بين كفيه، ويدركُ أن الأرض تحفظُ تقاسيم الأصابع التي تحرثها وتبذر فيها الحياة. لذا، كان سهلاً عليه العودة إليها، العودة للعيش في أوديتها السحيقة التي تُولِد الفجر الأحمر في أعلى قمم جبالها المحصّنة بدشم العدو الصهيوني وعملائه.. ولكم تاقت روحه إلى عيتا..إلى سمائها القريبة من القلب.. إلى البيت الذي أوصد بابه على عناكب الفراغ.. إلى الأرض التي حرثها وبذرها، فلم تعرف من بعده إلا اليباس.. ولكنه بدأ حرثاً من نوع آخر.. الحرث في نفوس الشباب التواقين للجهاد، فكان منارة لهم بدماثة أخلاقه، وعمق التزامه، والكيفية التي نسج فيها علاقته بالله عزَّ وجلَّ.. فلم يترك لأي شيء، كبيراً كان أو صغيراً، أن يؤثر على علاقته بربه، فقد سَهُلَ عليه طريق السلوك كُلّما صعبت عليه طرقات الدنيا..

من الأمكنة الجرداء التي ألهبت الشمس نارها، إلى الجبال التي غطتها الثلوج بقرصها. لم تتغير عزيمته ولم تفتر، فما عليه القيام به يؤديه على أكمل وجه، وبسرية تامة. فقلّة الذين عرفوه حق المعرفة، وكثر هم الذين التقوا به ولم تُنكشف صورته الحقيقية لهم، إلا وقد رحل عنهم.. تزوج الحاج محمد وهو لا يملك من متاع الدنيا أي شيء.. والتزاماً بالمسؤوليات التي اضطلع بها في المقاومة الإسلامية، صار يتنقل من مكان إلى آخر، ومن بيت إلى بيت، ولم يبحث عن استقرار في الدنيا، فجلُّ ما أراده هو راحة الآخرة.. وقد تميّز بحسن جيرته وطيب معشره على ضيق الزمن الذي يقضيه بالقرب من الجيران. ولم يشعره أي مكانٍ بنسبة ضئيلة من الانتماء، إلا المنزل الأخير الذي استأجره في قرية عيتيت، فقد أحبَّ الحديقة التي زرعها بمختلف أنواع الفاكهة، وطرزها بألوان مختلفة من الورود، حتى يُخيل للناظر إليها أنها جنّة غنّاء، وصرّح بأنها المرة الأخيرة التي سينتقل فيها، وأن هذا المنزل هو محطته الأخيرة..

حمل الحاج محمد همّ أهله وإخوته وشاركهم تفاصيل حياتهم، ولم يعرف أحد منهم ما يجول في قلبه، فقد حمل همه لوحده، وسكت عنه إلا لخالقه.. وفي السهرات الجميلة، كان ينقل لهم الروايات والأحاديث الخاصة بأمير المؤمنين علي عليه السلام التي واظب على قراءتها..

تميّز الحاج محمد بسعة تفكيره في العمل، والدقة في تنفيذه، فمهما تكاثرت الملفات بين يديه، لا يغمض له جفن قبل أن ينتهي منها، وقد أعطى كل واحد منها حقّه، فالراحة عنده تكمن في النقطة على السطر.. بعد تحرير أيار العام 2000، اعتبر الحاج محمد أن مرحلة المزاح في قتال العدو الإسرائيلي قد انتهت، وحان وقت الجد.. وكم من جرحٍ التأم بروحه وهو يقبّل التراب الذي حرثه وهو طفل.. وكم من شراع غربة قد تمزّق وهو يجول في الحقول يسرح بنظره في أفقها، وفي يده سبحةٌ تنساب بهدوء على ترانيم تسبيحات لله عزَّ وجلَّ.. هي الأرض ذاتها؛ كان والده يحرثها عند وقوع عملية الأسر في تموز من العام 2006، فسارع الحاج محمد للاطمئنان على والده وإخوته، ومع رفاقه في المقاومة الإسلامية استشرفوا الحرب التي بدأت بنغماتٍ صاخبة.. فانطلقوا بنفس الوتيرة ليصدوا الحرب الشرسة التي بدأها العدو الصهيوني على لبنان..

من قرية إلى أخرى.. تحت عيون طائرات الاستطلاع والطائرات المقاتلة، وبين قذائف المدافع والصواريخ، لم يترك الشهيد محوراً واحداً على طول خطوط المواجهة إلا وكان له نصيب في المشاركة فيه.. فواكب المجاهدين لحظة بلحظة، وطلقة بطلقة. وعبر أثير الأجهزة، كان صوته يؤنس المجاهدين، فيثبت من عزيمتهم، ويضخ فيهم من المعنويات التي طالما أجاد زرعها في نفوس المجاهدين؛ وظلّ مواظباً على السُنّة التي سنّها بين الرفاق، فما كان مع اثنين، إلا وأدوا صلاتهم جماعة في أول وقتها، ولم يؤخره أي شيء، طوال فترة حياته، ومهما كان الملف الذي بين يديه، وأينما كان، عن أداء الصلاة في أول وقتها : "أولسنا نقاتل لأجلها".
 

وبإخلاصه المعهود، ودقته المتناهية، قام بالعمل الموكل إليه على الرغم من ضراوة الحرب وشراستها، ولم يسمح لأي خللٍ بالتسرّب إلى عمل المجاهدين.. ولأنه لا يعرف الراحة إلا عند النقطة في آخر السطر، رفض أن يغادر المكان الموجود فيه قبل أن ينهي تفاصيله، ولكنّ الله عزَّ وجلَّ أراد له في هذه المرة أن تكون النقطة هي قطرة من دمائه الزكية.. وترجّل الفارس عن صهوة جهاده شهيداً.. وسقى التراب بدمه.. وأينع زرعه نصراً مبيناً.. هكذا أراد جهاد أن تكون حياته، وهكذا تمنّى أن تُختم؛ فنعم عقبى الدّار ..

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع