مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

جعبة مقاوم: ناديتُ... حيّاً

ولاء حمّود

 



- ماما... بابا... عمُّو أحمد... وجمدت في يده الورقة الممدودة إليهما، وتوقفت قدماه حيث أوصلتاه بعد العتبة بخطوات. وحرّكت أسئلة أمه المتتالية جمود اللحظة الواقفة عند أصداء هاتيك الحروف: "ما بك؟... ما هذه الورقة في يدك؟ ما الذي كنت تودُّ قوله لعمك أحمد"؟ وأطبق "أحمد" يده على الورقة، انتشل صوته من بئر الحزن العميق الذي وقع فيه لتوِّه وأجابها:

- "لا شيء... لا شيء... كنت أريدُ أن أخبره وإياكما أنني..." ولم يستطع أن يكمل، وهمهم بحشرجاتٍ مخنوقةٍ ومضى إلى الخارج. وهناك ترك دموعه حرةً وترك انفعاله يستريح على إيقاع صوت أبيه، يخفف عنه، يشجعه: "أتبكي كالأطفال يا أحمد؟ كن مثله رجلاً ومثله شجاعاً، كُفَّ عن البكاء يا ولدي"! وأشار لوالدته خفيةً، فمضت به، وفوق المغسلة، راحت ترشُّ بالماء وجهه، تلاعبه، تلاحقه بالأسئلة. وقبل أن يجيب على أحدها، وصلهما صوت الوالد، وكأنه أدرك حلَّ أُحجيةٍ صعبة: "هل صدرت نتائج البريفيه في محافظة جبل لبنان؟ لقد سمعت أمس نتائج محافظة الجنوب، ماذا عنك؟".

- "أجل يا أبي -أجابه بعد أن سحب نفساً من أعماق رئتيه- لقد نجحتُ وجئت أَزف إليكما البشرى، ونسيت في غمرة فرحتي، أن عمي أحمد لا ينتظرني كما وعدني، فناديته كأنه حيٌّ بيننا".\ ولم تتركه يستسلم للغصَّة التي خنقت عبارته الأخيرة، فاحتضنته بحب جميع أمهات الكون، وراحت قبلاتها تتناثر على جبينه، خدَّيه، وكتفيه. وعندما ضمَّته ذراعا أبيه، همس له: "لقد وعدني عمي في اليوم الأخير من الامتحانات الرسمية بهدية غالية عليه". فمنع الوالد دمعتين عزيزتين ومازحه: "إذاً... كل هذا البكاء، من أجل الهدية، لا شوقاً لعمِّك الشهيد؟ على أي حال، اعتبر هديتي لك منه. بماذا كان يعدك"؟

- "لا أدري، لعلها بندقيته، فقد كان يصفها برفيقة جهاده العظيمة، كلما ذكرني بها". وبعد أن غرق أحمد في حنان أبويه الملوَّن بذكرى الشهيد، حملته إلى الباب طرقاتٌ مستعجلة توقفت عند مواجهته شاباً ملتحياً، رأى فيه أبو أحمد صديقاً قديماً لأخيه. سألهم: "هنا منزل الشهيد أحمد سبيتي"؟ أجابه الوالد: "أجل، أنا شقيقه، تفضل".

- "لقد أرسلني إليكم بهذه الأمانة. كان حريصاً على إخفائها عن عيون "أم كامل" الصهيونية. وقد قال لي ليلة استشهاده قبل افتراقنا بساعةٍ واحدة: سأقدِّمها "لأحمد" إذا نجح في امتحان الشهادة الرسمية، إنها لم تخذلني أبداً، لطالما أوصلتني في أصعب المهمات، وهي مقاومةٌ تليق بناجح مثله. ومنذ دقائق، لمحتك تعدو مسرعاً من محل الإنترنت، أيقنت أنك ناجحٌ، فأسرعت بها آملاً أن لا يسبق أحدٌ هدية الشهيد إليك حتى ولو كان أحد والديك". وقدَّم الزائر لأحمد مفاتيح دراجةٍ ناريةٍ، وقد زادتها جمالاً ورفعةً صورة صاحبها الشهيد، وهو يمتطيها مبتسماً، تاركاً لآلة التصوير حرية نقل ملامحه الوادعة كما هي، فصاح أحمد وقد أدهشته سعادة المفاجأة: "ماما... بابا... ألم أقل لكما منذ قليل إنه سيهديني بمناسبة نجاحي، وماذا؟ رفيقة جهاده العظيم"؟  فاقتربت الأم ترحب بالزائر الآتي، ظلاً وصوتاً وصدىً لغالٍ بكته أخاً عزيزاً "تفضل يا أخي، فمنزل الشهيد كما قلبه، مفتوحٌ لرفاق دربه، لإخوة جهاده، إنه باقٍ فيكم، حيٌّ بيننا". والتفتت إلى ولدها تلامس بحنو وجنته: "لقد أسمعتَ إذ ناديت حياً شهيدُ الله حيٌّ لا يموت"

شكرها الشاب وتوجه إلى أحمد بقوله: " لقد كان يحدثني دائماً عنك ويحلم في أن يراك، مقاوماً، مثقفاً، متعلماً. اسلك طريقه إلى الله عبادةً وجهاداً وعلماً... ولا تنسه من هداياك، في محراب صلاة الليل". فصافحه أبو أحمد شاكراً، وعانق كلٌّ منهما في الآخر طيف الشهيد. أما أحمد الذي عانقه بدوره، فقد آثره بالورقة التي نسوها جميعاً حتى اللحظة "أرجوك اقبلها مني، ليس لديَّ الآن سواها... إنها علاماتي، وأنت مثله... عمي". أخذ الشاب الورقة، تأملها قليلاً، ثم رفع بها يده تحية لأم أحمد التي انشغلت بمسح بقايا دمعةٍ أثارتها هدية الشهيد. ومضى وهو يعلم أن أحمد سيتابع خطاه المسرعة نحو المنعطف، ليرى فيها خطى الشهيد الذي اخترق أستار الرحيل إليه، على صهوة هديةٍ غاليةٍ، تزينه قبل غروبها هالةٌ من ضياء شمس ذلك اليوم الغارق في أفراح النجاح وأعراس الشهادة... في أواخر شهر النصر الإلهي.

***
الشهيد أحمد أمين سبيتي من قعقعية الجسر، بقي فيها أثناء العدوان، يؤمن الطعام للمجاهدين والأهالي وهو يتنقل بين المواقع والبيوت، بقدم واحدة، لأنه كان قد خسر الأخرى في عملية جهادية قبل تسع سنوات. استشهد بعد أن استهدفته الطائرات الإسرائيلية بصاروخين أصابه الأول غروب الثالث عشر من آب 2006. فتابع زحفه ليصل إلى أبويه ويطمئنهما، وأصابه الثاني عند منتصف الليل.. فارتفع إلى جنان الله شهيداً بعد أن أدى قسطه للعلى جهاداً ومقاومة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع