نسرين إدريس
بطاقة الهوية
اسم الأم: صالحة الزين
محل وتاريخ الولادة: عيتا الشعب 13-1-1965
الوضع العائلي: متأهل وله خمسة صبية
رقم السجل: 3
محل وتاريخ الاستشهاد: عيتا الشعب 5 – 8-2006
من منزلٍ إلى منزل، لاحق فلول الصهاينة. والبندقية التي عانقت الكتف والقلب، كتبَ برصاصها تاريخ فجر الانتصار الجديد للبنان. الانتصار الذي كانت بدايته ونهايته في عيتا الشعب.. وعيتا، معقلُ الرافضين، كان أهلها في زمن الاحتلال يواظبون على الصلاة في المسجد رغم أنف العملاء، ويقيمون الشعائر الدينية، غير عابئين بردات فعل العدو، فعاشوا الحرية تحت نير الاحتلال. وكان هو، أستاذ الرافضين. وظلت جبهته شامخةً تعانق الشمس رافضةً الخنوع والخضوع، فيقول ما عنده في الجلسات الخاصة والعامة، ويبثّ القوة بثبات رأيه، فعُرِف برجاحة عقله، وسداد مشورته، ونالَ من أهل قريته الاحترام والتقدير وهو لا يزال طالباً على مقاعد الدراسة، والتبجيل عندما صار أستاذاً كتبَ على اللوح بالطبشور، كيف أن الإنسان لا يمتّ للإنسانية بصلة إذا ما استسلم للظلم ورضي به.
نال الأستاذُ نصيبه من الظلم والقهر، ولم يفتّ سوط الاعتقال الذي حفر السواد على ظهره من يد العميل الفارّ أحمد شبلي، من العزيمة التي اعتاد أن يمتشقها عالياً رافضاً أن يبدّل الوجهة التي عانقت دفة عمره. ولم يَقُدْه السجن البارد الذي ألقي به في فلسطين المحتلة لرفضه الانضواء في جيش العميل لحد، إلا إلى دفء شمس الحرية التي طالما حلم بها.. إنه المجاهد الصامت، والمتكلم القاصد بكلامه ما بعد ما بعد المعنى، فحمل على عاتقه تربية جيلٍ صلب، عرف سلفاً أنه لن يستطيع أن يبذر فيه ما يريد ما لم يحرثه بيديه. وقبل أن تغادر الأفراخ أعشاشها، تشرّبت من تعاليمه معنى الوطنية، وقيم المقاومة، وهي خلف مقاعد الدراسة. فهي في زمن الأستاذ الذي أدرك باكراً أن الصفوف الدراسية هي أشمل من مناهج تربوية، بل هي طريق لبناء الأجيال التي تحمي الوطن، فكان منارةَ مدرسة عيتا الرسمية، وقلبها النابض حيوية وحياة. لقد شهد الأستاذ وجيه الانتصار الأول للمقاومة الإسلامية في أيار، ولم يصدّق عينيه وهو يرى حلمه يتحقق على يد المجاهدين البواسل، فها هي الحواجز قد كسرت تحت أقدامهم، وقد فردت عيتا ذراعيها لأبنائها المهاجرين ليعودوا إلى أحضانها، فشكر الله على أن رزقه كرامة رؤية الانتصار التاريخي الاول للمقاومة.
ومنذ ذلك اليوم، وهو يغترفُ من نهر المقاومة ولا يرتوي. التحق بالدورات العسكرية والثقافية، وكان مجاهداً وأستاذاً، وجيهاً تلجأ إليه الناس تبث همومها، فيساعدها بمشورته ورأيه السديد، بالإضافة إلى استلامه لمهمة مسؤول التعبئة الرياضية في القرية، فاستطاع بذلك أن يصل ليس إلى كل بيتٍ فحسب، بل إلى كل قلبٍ وعقل. والد لخمسة أبناء، وأبٌ لكل عيتا، فهو الذي جعل الرياضة ملتقى الفتية والشبان. ومن الرياضة فتح باب التعبئة الجهادية والثقافية، فكان الداعية بلا كلام، لدماثة أخلاقه ونُبل نفسه. فقد علّم الأستاذ وجيه الناس أرقى ما يمكن أن يتعلّمه الإنسان: أن العبودية لله هي الحرية المطلقة.
لقد انتظر الأستاذ وجيه الفرصة التي تثبت فيها يده ما يؤمن به قلبه. فالبندقية التي في يمينه، لم تبح بما فيها إلا في الدورات، ولم يسمع بعدُ وشوشات رصاصها في معركة حقيقية. لكم حلم أن يلتحم وجهاً لوجه مع الصهاينة، ليذيقهم مرارة الهزيمة من فوهة بندقيته. ولم يطلْ انتظاره، فعندما حان وقتُ الجهاد، أناخ وجيه الرحل عند ضفاف قريته، وصمد مع رجالها وشبابها وفتيتها. كان صوته يخترق الحصار ليرفع أذان الصلاة عبر الأجهزة، كما كان حديثه يرفعُ من معنويات الرفاق، وكلما سقط شهيد دعا الله تعالى أن يرزقه الشهادة. من منزلٍ إلى آخر، ينتقلُ ليتفقد الصامدين تحت عيون طائرة الاستطلاع، وبين قذائف المدافع، ويؤمّن ما يحتاجون إليه. ومع الرجال الرجال، التحم الأستاذ وجيه مع الصهاينة. وقد أذاقت عيتا العدو ما لم يذقه طوال عمره. لقد كانت عيتا منذ اليوم الأول لخلة "وردة" في الثاني عشر من تموز وحتى الرابع عشر من شهر آب، منتصرةً، وكلما جرّبت قوات المشاة الإسرائيلية التقدم، هربتْ فزعةً. نادراً ما كانت المواجهات تدور وجهاً لوجهاً، فالصهاينة سرعان ما يديرون ظهورهم للقتال، ويتوقون للهرب.
ولم تزد المسافات القريبة المجاهدين إلا ثباتاً، فمن منزلٍ لآخر، وفي المنزل ذاته أحياناً. كان المجاهدون يلاحقونهم ويلامسون ببنادقهم عتادهم من خلف، لأن أكثر ما قام به الجنود الصهاينة في عيتا هو الفرار. وأعطى الأستاذ وجيه آخر دروسه. وكانت جدران البيوت هذه المرة هي ألواحَه الأخيرة. ورعفَ دمه، ليكون حبراً لا يُمحى، وسقطَ على الأرضِ، ليس تعباً، بل شوقاً للذين سبقوه إلى الشهادة. قُبيل استشهاده، كتب الوصية الأخيرة لزوجته وأولاده وهو يعاني من ألم الجراح، واعتذر إلى أبناء بلدته عن عدم تقديم الهدايا والجوائز التي هيأها لدورة كرة القدم التي تعودت القرية سنوياً على إقامتها، ليقدّم روحه على مذبح الوطن. إنه انتصار جديد، شهده وشارك به. إنه التاريخ الذي أجاد الأستاذ وجيه طحيني قراءته، وكتب سطوره الجديدة على الجغرافيا الحقيقية التي رُسمت حدودها بدماء الشهداء.