مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الشهيد المجاهد عبد الأمير أحمد فاضل (مرتضى)

نسرين إدريس

 





إسم الأم: فاطمة نجدي‏
محل وتاريخ الولادة: يونين بعلبك‏13- 7-1975
الوضع العائلي: عازب‏
رقم السجل: 174 / 131
مكان وتاريخ الاستشهاد: بيت ياحون 14- 11 - 1994



تطفو الوداعة الآسرة على وجهه، كأنها وردة بيضاء على صفحة مياه نقية. عبد الأمير، الفتى الذي لبّى نداء الوطن، وحمل بندقيته باكراً ليكون من الرجال الأشداء على الكفار، الرحماء بينهم. في منطقة حي السلم في الضاحية الجنوبية لبيروت، ولد ونشأ عبد الأمير ضمن عائلة ملتزمة، كان همّ ربها تأمين قوت عياله وتربيتهم على الدين الأصيل ونهج الإمام الخميني قدس سره.. فانطوت أيام طفولته بين المدرسة والمنزل ومركز كشافة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف حيث فرد جناحيه للمستقبل الواعد، عصفوراً صغيراً لا يكاد يعرفُ من الدنيا إلا أياماً تقلّب أياماً، قبل أن يكبر ويصبح نسراً لا يحلق إلا فوق أعلى التلال ليدكّ مواقعها الحصينة..

لم يعرف عن عبد الأمير سوى هدوئه المفرط في المنزل وبين رفاقه، وبالتزامه الشديد قبل بلوغه سن التكليف، وبحنانه الدافئ على أخواته الثلاث وخوفه عليهن؛ فكان لا يفتأ يسأل عن أحوالهن، ويلبي طلباتهن، ويتمنى عليهن دوماً الانتباه إلى أدق التفاصيل في الدين. وقد تعلق قلبه بأخته الصغيرة "آلاء" التي اعتبرها ابنته، وكان يخبر والديه انه سيربيها كما يشاء، وسينتظرها لتكبر حتى ترتدي العباءة ليرى جميع الناس كيف يكون الالتزام الحقيقي بالدين الأصيل، وليس مجرد كلام يَذره العُجب في الهواء..

كان يتحدى بمعتقداته كل الظروف، وبإيمانه العميق شق طريقه بعزم حسيني، استمده من ملهم الثوار الإمام الخميني قدس سره، ومن دماء الشهداء الذين تركوا بمظلوميتهم الكبيرة الكبرياء في قلبه والرفض لكل ما يمكن أن يقف في طريق اختياره.. رأى عبد الأمير ساعد والده الذي نزف العرق لأجل إطعامهم، يشد على بندقية الجهاد، وعينيه اللتين سهرتا عليهم ليكبروا، وحرستا المحاور ضد العدو الصهيوني وعملائه، فأنارت تلك الصورة المشرقة الغد أمامه. وباليد التي طالما أخذ بها يد أخيه علي، انطلق معه إلى دروب الجهاد، ليتحرر معه من انتظار الأيام، وليبدأ عبد الأمير رحلته الجهادية وهو لا يزال فتى لم يبلغ السادسة عشرة من عمره.. وإذا كانت البندقية تركت آثارها في باطن كفيه، إلا أنه حرص على ألا يعرف أحد في المنزل طبيعة عمله، حتى والده وشقيقه. أما والدته وأخواته فلم يعلمن أنه في عداد مجاهدي المقاومة الإسلامية، لأنه كان دائماً يحتج بالكشافة عند التحاقه بأي دورة عسكرية، أو أي عمل جهادي في الجنوب..

في الكشافة، لا يزال وجهه محفوراً في قلوب كل من عرفه. وقد تلونت القمصان عليه وهو يتنقل من مرحلة إلى أخرى، من الكشافة إلى الجوالة حتى صار قائداً في فوج الإمام الحسين عليه السلام، الفوج الذي قدم العديد من المجاهدين والشهداء؛ بتلك الابتسامة التي لم تأفل للحظة، وقد تركت مساحة واسعة للدمع بعد رحيلها، وبذلك الهدوء الذي خبأ في طياته رعود وبروق الغضب التي أطلقها في ميادين القتال ضد الصهاينة، وذاك البريق الغامض المشرق من عينيه. وكان كلما قال له أحد من أهله إن النور يشرق من عينيه ابتسم ببراءة قائلاً: "انه ليس نوراً فعيناي هكذا"..

لم يكن سحراً خاصاً ذلك الذي نبضت به شخصيته الفذة التي استطاعت جني المحبة والاحترام من كل من عرفه، بل كان انعكاساً لتلك الطيبة الترابية التي زخرت بها روحه؛ طيبة ممزوجة بأخلاق عالية، وتديّن مترافق مع تأملٍ عميق، وتمنٍّ عميق مع دعاء مستمر بأن يجعله الله من الجنود المدافعين عن الإسلام. لذا حرص على أن يقوم بالتكاليف الموكلة إليه على أتم وجه، ولم ينبس يوماً ببنت شفة أمام أي مهمة، فرده الوحيد تلك الابتسامة والانحناءة الهادئة للموافقة المطمئنة..

عندما كان يطلُّ هلال شهر رمضان المبارك، كان وجه عبد الأمير يغيب عن المنزل، إذ كان يقضي الشهر في المسجد، وينام مع رفاقه في الكشافة في مركزهم، حتى إذا ما حان موعد السحور، ترنمت أصواتهم الفتية على موسيقى حفظتها قلوب الناس، وهم يجولون في الأحياء الضيقة والمستضعفة، التي كان يراها عبد الأمير واسعة جداً لأنها كانت الشريان الأساسي للمقاومة الإسلامية. عند وقوع مجزرة عين كوكب عام 1994، والتي استشهد فيها العديد من المجاهدين في معسكر التدريب، كان عبد الأمير على طريق العودة من دورة استمرت لشهرين، ولم يصدق عندما وصل إلى المنزل ما سمعه، فقد استشهد بعض رفاقه، وجرح آخرون، وهو لم ينل أي وسام، فسبّب له ذلك حيرةً تقاذفته بين التوبة والإنابة والتوسل والدعاء للإسراع بالرحيل إلى الله!!

بعد عدة دورات عسكرية تأهيلية، بدأ عبد الأمير بالعمل الفعلي في صفوف المقاومة، ولم يعد عمله يقتصر على بعض المهام الصغيرة، بل صار يشارك في العمليات العسكرية، والنوعية، ومجموعات الاستطلاع والرصد، وفي كل مرة كان يقول لوالدته إنه في عمل للكشافة.. لم يحدّث أحداً يوماً عن عمله، حتى والده وأخاه رفيقي دربه، فالسرية والكتمان وسمتا شخصيته المرحة التي تركت إشراقة السعادة أينما حلت. وعرف كيف يكون الصمت جواباً شافياً لأسئلة ردودها محفوفة بالرصاص، وهو الذي ما إن يعود من عمله الجهادي، حتى يُشمّر عن ساعديه ويرافق والده إلى ورش البناء ليساعده ويخفف عنه، ولم يتركه لحظة يعمل لوحده طالما هو في بيروت.

بدأت شوارع حي السلم الضيقة تتسع لمواكب تشييع الشهداء من رفاقه، وهو يعض على الجرح صبراً، ويبكي ألماً لحرمانه الشهادة، خصوصاً وأنه رأى الفرصة سانحة أمامه، فخاف أن يحرمه الله هذا الشرف عقاباً له على أشياء اقترفتها نفسه دون قصد. فقد أصيب مرة خلال قيامه وأحد الإخوة المجاهدين بعملية استطلاع حيث كشفتهما طائرة الاستطلاع وأطلقت عليهما القذائف، ما اضطره لرمي نفسه عن علوّ شاهق، أدى ذلك إلى تمزيق ثيابه وإلى رضوض قوية في جسمه. وقد اخترقت الشظايا جسده الطري، فبقي في المستشفى ليومين، قبل أن يطلب الذهاب للمنزل دون أن يبلغ أحداً من أهله بإصابته، واكتفى بإخبارهم بأنه وقع.

قُبيل انطلاقه للمهمة الأخيرة، كانت والدته تهيئ نفسها لزيارة مرقد الإمام الحسين عليه السلام في العراق، فساعدها على توضيب حاجياتها، وأعطاها رسالة لوضعها في المرقد الشريف.. كان غياب والدته عن المنزل فرصة له ليكون في المحاور دون التفكير في خلق الأعذار. في المقابل، كانت هي على الطريق تفكر بأشياء كثيرة، أشياء دفعتها لحمل الرسالة وفتحها.. فكرت كثيراً قبل أن تقرأ ما فيها، فهذه الرسالة أمانة، ولكن شعوراً غامضاً دفعها لأن تلتهم السطور المكتوبة بخط يد ولدها بسرعة. وراعها ما قرأت، لقد طلب عبد الأمير من الإمام الحسين عليه السلام الشفاعة له لينال شهادة مباركة.. لم تستطع بلع دموعها، كما أنها لم تستطع أن توقف أصابعها التي أمعنت في تمزيق الرسالة قبل أن تذرها في الهواء، ولم تدرك أن تلك النثرات قد وقعت في كفي الإمام الحسين عليه السلام حتى قبل أن تصل إلى المرقد، وصوت عبد الأمير الملائكي يرن في أذنيها بجملة كان دائماً يرددها لها: "لألف ضربة بالسيف خير من الموت على الفراش"، ويؤكد لها: "غداً ستقابلين السيدة الزهراء عليها السلام، وتقولين إن ابني شهيد"..

قام عبد الامير مع رفيق له بعملية استطلاع في منطقة بيت ياحون، وكان يردد أمام رفاقه أنه يجب أن يعود قبل وصول والدته من العراق.. فوصل باكراً عبد الأمير، ولكن ليس إلى بيروت، بل إلى جنة الخلد قرب الإمام الحسين عليه السلام حيث عشق أن يكون.. استشهد عبد الأمير، وترك توأم روحه المجاهد يوسف بركات، الذي لم يستطع الدخول ثانية إلى المنزل الذي تربى فيه بعد رحيل رفيقه الذي ترك فراغاً شدّ على قلبه. وبعد أكثر من عشر سنوات، استشهد يوسف بركات في مواجهة بطولية. وعندما قام المجاهدون بإفراغ جيوبه قبل تغسيله وتكفينه، وعوض أن يجدوا في محفظته الخاصة صور أطفاله، كانت صورة الرفيق الذي لم يغادر القلب "عبد الأمير أحمد فاضل" ترتاحُ قرب النبض الذي ما إن سكت حتى التقى به.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع