الشيخ يوسف سرور
تعبث الفوضى بمسارات الأحداث، وتشتدُّ وطأةُ تلاحُق الوقائع المحتومة على المفلسين.. ذوي التجارب الخائبة، تعصفُ بغرور الفارغين.. المتَّشحين بلباس الآدميين وما هم منهم!! تتضاءلُ فرصُ الزَّمان، إذ قد بلغتِ الرحلةُ نهاياتها، ولمّا تستوِ الأمورُ على مشهدٍ مرجوٍّ للّذين استبدَّ القلقُ على كيانهم المهدَّد بخياراتهم المضطربة...
اختلاطُ الأوراق البالغ ذروتَهُ والتنافس المحموم المصحوب بالأسئلة الكبرى على المصير.. على النتائج.. على وجود كيان.. توافد العوامل.. تسارع الأحداث.. تناقص الوقت المُتاح.. القلق على الوجود.. تراكم الخيبات.. التربُّص المتبادل للمتنكرين بأشكال البشر في حظيرة البائسين الزَّاعمين أنَّهم الشعبُ المختار.. وقبل كلِّ هذا وفوقه الشعور العميق بالذُّلِّ والمهانة والحقارة في ميدان رجال الله.. كلُّّ هذا وأشياءُ أخرى، بلغ بالقلوب الحناجر، وأتاح للأوهام أن تستولي على عقول جبابرة المشهد. إلى جانب هذا، تحفُّز الواهمين من أبناء جلدتنا إلى رؤية مشهدٍ جديدٍ في المستقبل العتيد، خالٍ من منغِّصات سلامِهم الموهوم، دفع ذلك إلى تضافر العوامل واتّساق الأورام التي ابتُلي بها جسدُ الأمَّة.. عسى أن تأتي الساعةُ التي نصحو فيها على صباحٍ ذهب بها أيدي أهل البأس والثبات...
التقت أحلامُهم واجتمعت آمالُهم، بل أوهامهم، فكأنَّهم قالوا: لا تُبقوا لأهل الشرف في الشمال ولا في الجنوب من باقية!! سئمنا التقاط الصُّوَر.. سئمنا عرضَ الصُّوَر.. نعم.. لقد سئم العالم التقاط صُور أشلائنا المشظَّاة، لا يهمُّه التقاط أشلائنا.. سئم العالم مشاهدة موتنا ورؤية بقع الدَّم المنتشرة على الشَّاشات.. سئم العالم النَّظر إلى الآفاق الحمراء المصطبغةِ بدماء الأمّهات وأجنَّتها. لقد سئموا صراخ أطفالنا الذي ملأ فضاءات الوجود دويّاً واختناقاً ومظلوميَّة. إنَّهم يقولون لنا: موتوا سريعاً أو الهُوينا بكلِّ وقارٍ ولا تصرخوا. ممنوعٌ عليّ.. أنا الطِّفل الَّذي كبُر قبل أوانه وحُمِّل همَّ القضايا.. ممنوعٌ عليَّ أن أحلُم بالبراءة.. أن أحيا كأطفال العالم تغزل مخيِّلتي كلَّ الألوان.. وتحوك أحلامي كلَّ.. بعض.. شيئاً من أحلام الصِّغار.. أنا هذه الطفولةُ المسفوحةُ على تراب منفاي في بلدي.. أنا هذه الأشلاءُ الموزَّعةُ في فناء الدَّار ترسُم بها شهادتي خريطة الوطن المقطَّعةِ إلى نُتَفٍ مترامية.. آه لو أنَّ مساحة الوطن تكبُرُ بمقدار المساحة التي امتدَّت عليها شظايا قلبي الموزَّعة في كلِّ الأرجاء..
ممنوعٌ أن تنفرج شفتاي عن بسمة لربيع أيامي الذي أرادوا له أن يأفل قبل حلول أوانه.. أنا الأمُّ المخنوقة بآلامها المنسوجة خبط عشواء.. كأوراق الجلادين المبعثرة على مدى يأسهم وبؤسهم وحنقهم.. من صمودنا.. من بأسنا.. من وجودنا.. لا أيُّها السَّادة.. أيَّتُها الذّئاب المتنكِّرة بمظهر الآدميّين.. لن تمرَّ قوافلكم فوق أشلائي ولا فوق أشيائي... أنا هذا النجيع المنتثر يملأُ كلَّ فضاء.. منبثقاً يحكي ظلمكم هاتفاً في أُذن الوجود.. صافعاً كلَّ الخدود.. يوقظ أحلام الطفولة في عالمنا.. حيث أُريدَ لها أن تغطَّ في سُباتٍ قسريٍّ.. دهريّ.. يا أهلنا.. يا نُظراءنا في الإنسانيّة.. تتشظَّى أجسادنا من أجل أن تلتئم أحلامكم.. وتتقطّعُ أوصالنا من أجل أن تجتمع كلمتُكم.. نزيفُ جراحاتنا بلسمٌ لكلِّ جراحات قلوبكُم.. لا تيأسوا.. لا تختلطنَّ عليكم أوراق غدكم وما بعده، فإنّ امتزاج أجسادنا بثرى أرضنا هو صنو لغيث السماء ليحيا فيها طلعُكم وتتفتّح فيها براعمُ أطفالكم.. ويشتدّ فيها بأسُكم.. واعلموا: أنّ هذا الذي ترونه منّا ما هو إلا ثقافة الشَّهادة.. من أجل الحياة.