تحقيق: فاطمة خشاب درويش
لا يختلف اثنان، أعزائي القراء، على أن ترشيد الاستهلاك قد يكون حاجة اقتصادية مُلِحّة للفرد، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي نعيشها. إلا أن تعميم هذا السلوك في مختلف جوانب الحياة من قبل جميع الناس يعطي للموضوع بعداً أكبر وأوسع يتمثل بخدمة مجتمعنا والحفاظ على مقدراته، الأمر الذي ينعكس على الإنسانية جمعاء، وهذا ما يوصي به إسلامنا الحنيف الذي ينهى عن الإسراف كما التقتير. فترشيد الاستهلاك بات اليوم ضرورة في ظل الحديث عن تهديد بفقدان الموارد الطبيعية من طاقة ومياه وغيرها، والحفاظ عليها يتطلب بالدرجة الأولى الحس الأخلاقي والإنساني لتعم الفائدة الجميع وتطال أيضاً الأجيال المقبلة.
وعندما نذكر كلمة ترشيد الاستهلاك، يربط الكثيرون الأمر سريعاً بتوفير الكهرباء. وهذا الأمر ليس خطأً، كون الطاقة تشكل مورداً أساسياً وهاماً في حياتنا، إلا أن ترشيد الاستهلاك لا يمكن حصره في هذا المضمار، إذ إنه يحتوي على معنى أعم وأشمل، وهو يصلح للتعبير عن اعتماد أسلوب "حسن الإدارة" في كافة أمورنا. في هذا التحقيق، سنقدم شرحاً مفصلاً لكيفية الوصول إلى ترشيد الاستهلاك بالطرق الصحيحة. ولكن بداية، من المفيد الإطلالة على واقعنا المُعاش المليء بمظاهر عدم الترشيد.
* المشكلة في عاداتنا الموروثة
ترى بديعة شديد، وهي تعمل مدرّسة، أن لا أحد في هذا الجيل يهتم بموضوع التوفير، فالأمر لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، فكبار السن أحرص في هذا المجال. وعندما يوجهون النصائح لهم، يعتبر ذلك في إطار المبالغة، ويكون الجواب: ما هو حجم التوفير الذي سيحصل؟ لن تغيروا الكون. وفي المقلب الآخر، هناك من يقتنع بضرورة تغيير السلوك، فيحاول ضبط الأمور، إلا أنه يمل مع الوقت ويعود إلى سلوكه وعاداته السابقة، وتتابع قائلة "تعودنا أن يبقى التلفاز شغالاً طوال النهار حتى لو لم يكن هناك من يشاهد. نستعمل المكواة أكثر من مرة في النهار. نحن في مجتمع معتاد على الصرف بكثرة، لأن هناك ربطاً ما بين الإسراف وبين صفة الكرم التي يسعى الكثيرون للاتسام بها، فيكون مصير النصيب الأكبر من طعامنا الرمي في سلة النفايات". وتؤكد بديعة أن المشكلة الأكبر هي في خوف الناس من القيام بأي تصرف يصب في إطار التوفير ولو كانوا مقتنعين به، خوفاً من الانتقادات والاستهزاء من محيطهم. أما بالنسبة إلى العاملين، فتشير إلى وجود استهتار من قبل الكثير، وهناك نماذج متعددة من الفساد الإداري، خاصة في المؤسسات والإدارات الرسمية، وترى أن الضابطة الأخلاقية والإيمانية هي الأساس عند العامل، لأن رب العمل ليس موجوداً طوال الوقت معه.
* المفاهيم الخاطئة تحكم مجتمعنا
يرى كمال شعبان، وهو يعمل في أحد المحلات التجارية، أن الإنسان في لبنان لا يفكر بالاقتصاد في استهلاكه إلا إذا كان مضطراً لذلك، فهو لا يفكر بحجم استهلاكه للكهرباء إلا إذا كان يستخدم اشتراك الكهرباء، ولا يشتري على قدر حاجته إلا إذا كان لديه مبلغ محدد في جيبه, ويشير إلى أن الوضع الاقتصادي الصعب يفرمل حركة الإسراف في الاستهلاك في نهاية الشهر، إلا أن هذا الطبع غالب في حياتنا. ويتابع معلقاً على موضوع هدر الطاقة، منتقداً عدم وجود سياسات حكومية تعتمد أسلوب التوزيع العادل للكهرباء في المناطق، الأمر الذي يدفع إلى سرقة الكهرباء أحياناً وإلى توسيع مواطن الهدر بدلاً من ردمها. أما بالنسبة لمدى وعي الناس لأهمية التوفير لديهم، فيرى كمال وجود نقص في التوعية التي إذا كثفت واستمرت قد تنجح في تغيير بعض المفاهيم الخاطئة في مجتمعنا.
* إسراف في الكهرباء
أما حسن عليان، فيتحدث بإسهاب عن مظاهر الإسراف في حياتنا، خاصة بعد دخول الأدوات الكهربائية الثانوية إلى منازلنا، قائلاً "بعدما كنا نسخن صحن الطعام على الغاز، فإننا نستعمل الميكروويف اليوم. ومن أجل شرب كوب من الشاي، نستخدم السخان الكهربائي. يعمل "القازان" بصورة مستمرة والمكيف كذلك، فحياتنا أصبحت كلها على الكهرباء. ويتابع حسن مؤكداً على ضرورة التقيد بما أوصانا به الله سبحانه وتعالى، فلا إسراف ولا تقتير، مشيراً إلى أن من يعرف الدين الإسلامي حق المعرفة لا يستطيع أن يسرف أو يسرق الكهرباء أو حتى أن يأخذ شيئاً من درب أخيه في الدين أو نظيره في الإنسانية.
* الفوضى من أسباب الإسراف
تتحدث الحاجة أم علي زلغوط، وهي ربة منزل، بغصة عن حجم الضيق الاقتصادي الذي نعيشه هذه الأيام، مشيرة إلى أن الهموم الاقتصادية من فاتورة كهرباء وطبابة وإيجار منزل تدفع الإنسان إلى التفكير بأية وسيلة للتخفيف عن كاهله، وبرأيها أن عدم الالتفات إلى حجم الاستهلاك في حياتنا ناتج عن فوضى يعيشها الإنسان بالأساس. وتتابع الحاجة أم علي مشيرة إلى دور الأهل الأساسي في تربية الأبناء على أسلوب حسن الاستهلاك، لأن الأمر يصبح صعباً عندما يكبرون ويتعودون على أسلوب الإسراف في حياتهم، ولا تخفي بالمقابل أن المجتمع ينتقد من يحاول التوفير أو الالتفات إلى بعض التفاصيل، كعدم اقتناء براد لمياه الشرب أو سخان للطعام، أو حتى استخدام أدوات التنظيف بكميات معقولة، أو طبخ الطعام على قدر الحاجة. إلا أن قناعتها أن العيش بكرامة دون حاجة الناس يجعلها تواجه دون اكتراث.
* نضطر أحياناً لضبط الاستهلاك:
أما الشاب بلال حمادة ابن العشرين عاماً، فلا يرى مشكلة أساساً في موضوع الاستهلاك بشكل عام، فلا أحد يستطيع برأيه تغيير الكون، وأي تعديل في السلوك لن يحصد نتائجه ولن يغير ولن يؤثر لا على المصروف ولا على حجمه. ويشير بلال إلى أنه عندما يريد الاستحمام صباحاًً، فهو يشغل "القازان" قبل يوم ويتركه يعمل حتى بعد الانتهاء، أما بالنسبة إلى المكيف، فهو يعمل طوال الوقت. وبالنسبة "للمبات" المضاءة، فيتساءل بلال "ما المشكلة إذا كان المنزل كله مضاء، فالنور بركة والتكلفة لا تستحق الوقوف عندها؟!". ويتابع بالإشارة إلى أن والدته تستحي من القول له أن يطفئ "اللمبة" عندما يخرج من الغرفة. أما الحالة الوحيدة التي تضطرهم للتخفيف من الاستهلاك هي عندما يكون هناك اشتراك الكهرباء الأمر الذي يفرمل حركة الاستهلاك بشكل كبير.
* سوء استهلاك الطاقة
عضو لجنة الطاقة في نقابة المهندسين الخبير في مجال الطاقة الأستاذ حسين سلوم، يعتبر من جهته أن سوء الاستهلاك من قبل الناس والصرف المتزايد دون حاجة يؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على استهلاك الطاقة. ويشير الأستاذ سلوم إلى وجود مشكلة حقيقية في قطاع الطاقة في لبنان، فهناك أماكن هدر كبيرة والقطاع لا يدار بشكل جيد، فطرق الاستهلاك المعتمدة غير كفوءة ولا راشدة، والمشكلة الأساسية برأيه ليست فقط غياب الوعي عند الناس، بل عند صنّاع القرار الذين يفترض عليهم رسم السياسات والاستراتيجيات الطاقوية، ومن ثم إيجاد التشريعات الضرورية لتحديد الآليات التنفيذية من خلال مؤسسات الدولة. ويتابع المنسق الهندسي في المركز اللبناني لحفظ الطاقة مشيراً إلى عدة أمور تعتبر أساساً في تحسين هذا الواقع إلى جانب التوعية، ومنها التدقيق الطاقوي ضمن المنشآت (تحديد مواطن الهدر) والحاجة إلى وضع المعايير للآلات والأدوات المنزلية المستهلكة للطاقة، كالمكيف والبراد وسخان المياه واللاقط الشمسي و"اللمبة" الاقتصادية، وهذا ما يعمل المركز اللبناني عليه، مشدداً على ضرورة اعتماد إجراءات التحكم على الطلب من خلال البرامج التوفيرية، فمثلاً اعتماد برنامج استبدال مئة "لمبة" عادية بمليون "لمبة" توفيرية مع العلم أن "اللمبة" العادية تصرف 100 واط مقابل 23 للتوفيرية، مما يؤدي إلى تحييد نصف طاقة معمل الجية الذي يعطي بمعدل 200 ميغا واط، فبدل بناء معمل يتم العمل على محايدة الطاقة التي تكلف ربع قيمة بناء معمل. ويضيف سلوم معطياً أولوية لإنشاء بنك المعلومات الطاقوي الذي يفضي إلى إيجاد الميزان الطاقوي للبلد، الأمر الذي يسهل عملية بناء السياسات من قبل أصحاب القرار، هذا على صعيد واقع قطاع الطاقة في لبنان وطرق تطويره. أما لجهة الخطوات العملانية التي يمكن للفرد من خلالها المساهمة في ترشيد الاستهلاك ومنها استبدال "اللمبات"، استخدام براد ومكيف كفوء للطاقة، استخدام اللاقط الشمسي، استخدام مسحوق غسيل ينظف بالماء البارد. ويلفت سلوم إلى ما قام به المركز اللبناني لحفظ الطاقة مؤخراً تحت عنوان "فقسة بس بتوفر"، لتوعية الناس حول ضرورة إطفاء "اللمبة" في الغرف التي لا يجلس فيها أحد والتي لاقت أصداء واسعة معتبراً أن الدولة مقصرة كثيراً في مجال إعداد البرامج التي تتضمن إجراءات التوفير، مشيراً إلى أن التعويل الحقيقي هو على الناس الواعين ومن ثم إدارات الدولة الرسمية، من مجلس نواب ومجلس وزراء ووزراء الطاقة والمنظمات والجمعيات غير الحكومية، التي تلعب دوراً في توعية الناس من خلال البرامج والحملات التي تقوم بها.
* 8 خطوات لترشيد الاستهلاك
في الخلاصة أعزائي القراء: إن ترشيد الاستهلاك هو حاجة اقتصادية ملحة للفرد وضرورة أخلاقية وإنسانية وإسلامية للحفاظ على ديننا والنهوض بمجتمعنا. وقد يتخيل البعض أن اتباع هذا السلوك قد يكون صعباً أو مستحيلاً، إلا أن حقيقة الأمر ليست كذلك، فالمسألة تتطلب أخذ القرار والبدء في تغيير بعض العادات الخاطئة السائدة في مجتمعنا. وحرصاً منا على مساعدتكم في هذا الإطار، نقدم إليكم ثماني خطوات تمثل برنامجاً عملياً للوصول إلى حسن الإدارة في الحياة لنستفيد بالدرجة الأولى ونخدم مجتمعنا والإنسانية بأكملها:
1 حدد أولوياتك
2- قرر أن لا تقلد الآخرين
3- ارضَ بما تكسب وتنفق
4- وازن بين الدخل والمصاريف
5- الزم الكسب الحلال
6- احفظ الحق العام وحقوق الآخرين
7- صُن المال العام
8- ارعَ حاجات الآخرين
ـ إطفاء "اللمبة" عند عدم استخدام الغرفة.
ـ استخدام "اللمبة" التوفيرية.