تحقيق: منال ضاهر
كان يوم السابع من آب 2006 يوم خرجت داليا حسين وفي يدها 500 ليرة لتشتري الشوكولاتا والعصير، فاشترت الشوكولاتا من دون العصير، لأنها وضعت نصف المال في صندوق الصدقات عن روح والدتها.. في اليوم التالي، أصيب المنزل الذي هُجِّرَت إليه عائلة داليا بقذيفة حاقدة أطلقتها البارجة الصهيونية الحربية فدمرت البيت على رؤوس من فيه، مما أدى إلى استشهاد داليا وإصابة كل من جديها و والدها وإخوتها بجراح. نُقلت داليا إلى المستشفى ميتة ووُضعت هناك في براد الموتى لكن الله كتب لها عمراً جديداً لتعود إلى الحياة صامتة على كرسيها المتحرك، مغمورة بإشراقة الأمل الذي يشع من بريق عينيها .
* الطفولة التي اغتالتها يد الغدر
داليا حسين، شهيدة حية نزفت دماً وألماً، وكان جسدها معبراً إلى حياة أشد قسوة على طفلة من حقها أن تمشي وتركض وتلعب وتلهو وتترنم بصوت عذب يضج بأهازيج الطفولة الرنانة . في بلدة البازورية قضاء صور، تسكن داليا في منزل يمتزج فيه التواضع بالصمود والمقاومة، والبسالة بالعطاء، انطلاقاً من الإيمان القوي بأن الله خير معين وخير نصير. تجلس داليا على كرسيها وعلى وجهها تشرق ملامح طفلة جميلة ، تتعامل بذكاء مع من حولها ، تنظر إليها فتخنقك العبرة، ففي عينيها تكمن أسرار الطفولة البريئة التي اغتالتها يد الغدر الإسرائيلية وحرمتها أحلاماً كادت تصبح حقيقة لا تملك القدرة على الكلام فتستعيض عنه بابتسامات توزعها على من حولها بلطافة وحياء، رغم الوجع المسطور على وجنتيها.
* يوم شهادة داليا
مع الحاجة أم علي (جدة داليا التي تكفلت برعايتها منذ أن توفيت والدتها) تعود الذاكرة إلى تموز من العام 2006. ظنت عائلة داليا أن الخروج من البازورية التي كان لها الحظ الوفير من الغارات الوحشية إلى الغازية سيبعد العائلة عن الحقد الإسرائيلي الذي صب حممه ناراً اكتووا بها جميعهم. تروي الجدة لنا ما حصل في ذاك اليوم المشؤوم يوم الثامن من آب 2006، فتقول: "حضّرت الطعام وجلست أنتظر عودة زوجي وأحفادي لجلب اللبن من الدكان القريب من الساحة ، وما إن وصلوا إلى باب المنزل، حتى وقع البيت على رؤوسنا جمعياً..." تجهش أم علي بالبكاء وتهز رأسها بلوعة: "الله يضربهم مثل ما ضربونا... أصيب عبدالله (والد داليا)، ومصطفى وفاطمة (أخوا داليا)، وأنا وزوجي (جدا داليا)، بجروح.. واستشهدت داليا..."
* من الموت إلى الحياة
"مرت ساعات من البكاء والحزن على فقدان داليا بعدما وُضعت في براد الموتى، إلى أن جاءنا خبر من أحد معارف العائلة يقول: "داليا ليست ميتة ، لقد اكتشفوا في المستشفى أنها ما زالت على قيد الحياة عن طريق الصدفة"". "سارعنا إلى المستشفى بعد تضارب الآراء بحسب الحاجة سعاد (خالة داليا) - إلى أن وصلنا ووجدنا داليا مع المصابين الراقدين في المستشفى...". وتشرح كيف اكتشف أحد الأطباء أن داليا لا تزال على قيد الحياة: "عندما نُقلت إلى المستشفى في حالة الوفاة، وضعها المسعفون مع الشهداء في البراد، لكن الطبيب لمح أن يد داليا تحركت لبرهة، فصرخ يقول: إن الطفلة ليست ميتة بل هي حية. نُقلت على الفور إلى العناية الفائقة لخطورة إصابتها، وبقيت ما يقارب الشهرين في العناية المركزة. وفي هذه الفترة كنا ننادي داليا ولا من يجيب".
* رحلة العلاج
رافقت علية (زوجة عبد الله أبي داليا) داليا في رحلة علاجها الطويل متنقلة بين مستشفيات إيطاليا. وبوجه مليء بالغصة والألم تقول: "لقد بذل الأطباء ما بوسعهم حتى تمكنوا من إيصال داليا إلى ما هي عليه اليوم، حيث خضعت لعدة عمليات جراحية في الرأس بسبب ارتجاج الدماغ مما أفقدها النطق. كان الأمل ضعيفاً في بقائها على قيد الحياة، لكن، كل ما حصل من تطور في حالتها كان بفضل الله...". وبعودة داليا من إيطاليا تغير كل شيء في حياتها. تغيرت تفاصيل حياتها اليومية، فلم تعد تلهو مع الأطفال في الحارة أو في الأزقة، ولم تعد تصرخ أو تركض أو تنشد بين الحقول وفي البساتين. عادت داليا على كرسي يتحرك، وحرمت من النطق، وكأن قدرها أن تتألم بصمت لا يعلمه إلا الله وحده. ومن إيطاليا كان لا بد من متابعة العلاج في لبنان، تروي الحاجة سعاد: "إن الطبيب الذي يشرف على علاج داليا قرر تبني وضعها، وذلك بعدما رأى في المنام امرأة جليلة توصيه بأمر الطفلة... وهو يطمئننا إلى العلاج الفيزيائي وأنه كفيل وحده بجعل داليا قادرة على استعادة النطق والقدرة على المشي، وأن المسألة مسألة وقت، وأن داليا تتجاوب مع العلاج وقادرة على أن تعود أفضل مما كانت بعون الله.."
* صدقة داليا أنقذتها
يقول إمامنا الصادق عليه السلام كما روي عنه: "الصدقة تدفع البلاء"(1). وللمال الذي وضعته داليا في صندوق الصدقة نصيب في إنقاذها من الموت، كما توحي جدتها وهي تروي كيف أن داليا قبل يوم واحد من إصابتها أخذت 500 ليرة لتشتري الشوكولاتا والعصير، فاشترت الشوكولاتا من دون العصير ووضعت نصف المال في صندوق الصدقات عن روح والدتها، فقد يكون للصدقة التي دفعتها بيديها أثر في بقائها على قيد الحياة بمشيئة الباري جل وعلا، التي كتبت للطفلة عمراً جديداً على لوح الحياة، لتبقى الشهيدة الحية الشاهدة على لطف الله ورحمته، وعلى فظاعة الإرهاب الصهيوني الملوث بدماء الأبرياء.
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج109، ص184.