الشيخ بسام حسين
وصف الله تعالى في آيات كتابه الكريم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، وأثنى عليهم أعظم الثناء، فقال عزّ من قائل: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح: 29).
وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصفهم أيضاً قوله: "لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فما أرى أحداً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سجداَ وقياماً يراوحون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذُكِر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب"(1). وقد تميّز العديد من هؤلاء الأصحاب بأوصافٍ وألقاب ونعوت وصفات ناداهم بها التاريخ في مداه وتألّقوا في سماء علاه، فمن "حمزة" المعروف "بسيد الشهداء" إلى "جعفر" المسمى بـ "الطيّار" وصولاً إلى "حنظلة" المنعوت بـ "غسيل الملائكة". وهو من سنحاول في هذه المقالة الإطلالة على شذرات من سيرته العطرة.
* من هو حنظلة؟
هو حنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن مالك بن أمية بن ضبيعة بن زيد بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، الذي ترجع إليه قبيلة الأوس أحد الحيّين والقبيلتين في المدينة التي يتشكل منها مع قبيلة الخزرج الأخرى ما يعرف بالأنصار، فهو أوسي أنصاري(2). نشأ حنظلة في بيت أبيه أبي عامر الذي كان شريفاً مطاعاً في قومه، وكان قد ترهَّب في الجاهلية ولبس المسوح وصار يقال له الراهب(3)، وكان يُذكر بعْث النبي صلى الله عليه وآله مبشراً به، ويحثُّ على دين الحنيفية، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وآله عانده وحسده(4). وحين قدم رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة واجتمع قوم أبي عامر على الإسلام فارق قومه وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وجادله في الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، واتهم رسول الله صلى الله عليه وآله بأنه قد أدخل في الحنيفية ما ليس منها! فقال صلى الله عليه وآله: ما فعلتُ، بل جئتُ بها بيضاء نقية. فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب (منّا) طريداً غريباً وحيداً، وهو يعرّض بذلك برسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وآله: أجل، فمن كذب فعل الله تعالى به ذلك. فحين اجتمع قومه على الإسلام أبى أبو عامر إلا الفراق لقومه فخرج ببضعة عشر رجلاً منهم مفارقاً الإسلام ورسوله إلى مكة، وأخذ يحرّض قريشاً ويعلمها أنها على الحق وما جاء به محمد باطل! فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله بخبره قال: لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا: الفاسق(5). وشهد مع قريش وقعة أحد ثم رجع مع قريش إلى مكة ثم خرج إلى الروم فمات بها.. فاستجيبت بذلك دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله فيه، حيث مات طريداً غريباً وحيداً.
* إسلام حنظلة
وأما حنظلة فقد أسلم وحَسُن إسلامه وبقي مع النبي صلى الله عليه وآله، وخالف أباه أشد المخالفة، حتى روي أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله في قتل أبيه المشرك فلم يأذن له، وقال: يكفيك ذلك غيرك(6). وهذا من أدب الإسلام الرفيع وحفظه لعلاقات الأرحام ورعايته لحق الأبوة.
* العرس والشهادة
تزوج حنظلة بابنة عبد الله بن أبي سلول، في الليلة التي كانت في صبيحتها معركة أحد، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقيم عندها، فأنزل الله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النور: 62)، فدخل حنظلة بأهله فحضر القتال. ولما حضر القتال نظر إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكر، فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه فانكشف الفرس، وسقط أبو سفيان إلى الأرض وصاح: يا معشر قريش أنا أبو سفيان وهذا حنظلة يريد قتلي. وعدا أبو سفيان ومر حنظلة في طلبه، فعرض له رجل من المشركين فطعنه فمشى إلى المشرك في طعنته فضربه فقتله، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام وجماعة من الأنصار(7). ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله الملائكة تغسل حنظلة، فقال: رأيت الملائكة يغسلون حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف من ذهب، فكان يسمى: غسيل الملائكة(8). ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله المدينة، قال: سلوا عنه امرأته. فقالت: لما سمع بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله خرج مبادراً وهو جنب من قبل أن يغتسل. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فلذلك ما رأيت من غسل الملائكة إياه(9).
* من أبعاد قصته ودلالاتها
1ـ توضح قصة حنظلة أحد الجوانب العظيمة في شخصية النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله الاستثنائية، الذي استطاع بهديه ونورانيته الخاصة أن يربي مجموعة من الأفراد كان لهم قدم السبق في الفضيلة، ونالوا أعظم المراتب والمنازل والفضائل، كل ذلك ببركة صحبة النبي الذي كان من مهامه أن: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين﴾ (الجمعة: 2).
2ـ أظهرت قصة حنظلة بعضاً من مقام الشهادة والشهداء، التي أكد عليها القرآن في آياته كثيراً، فإن عناية الملائكة بهذا الشهيد وتغسيلهم له حال عروج روحه إلى بارئها، ليكون من بين الذين ذكر الله تعالى في حقهم أنهم ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169)، ليدل على عظيم المنزلة التي حباه الله تعالى بها حتى عرف بغسيل الملائكة.
3ـ لقد ترك حنظلة زوجته وفارقها في صبيحة ليلة عرسه، ولم تكبِّله الشهوات وتقيِّده المغريات التي قد تأسر الإنسان في مثل هذه المواقف الصعبة، فآثر الالتحاق بالنبي صلى الله عليه وآله والقتال بين يديه حتى الشهادة تاركاً وراءه كل شيء من زخارف الدنيا ومشتهياتها، ما يعلمنا كيف ينبغي للإنسان أن يقدم كل شيء في سبيل الله وإعلاء كلمته.
1) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 1، الخطبة 97، ص 189.
2) الإصابة، ابن حجر، ج 2، ص 119.
3) موسوعة التاريخ الإسلامي، اليوسفي الغروي الشيخ محمد هادي، ج 2، ص 252.
4) الإصابة، م.س، ج 2، ص 119.
5) موسوعة التاريخ الإسلامي، م. س، ج 2، ص 252.
6) المبسوط، السرخسي، ج 9، ص 62.
7) تفسير القمي، القمي علي بن إبراهيم، ج1، ص 118.
8) م. ن، ج1، ص 118.
9) شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي، ج 1، ص 272